بعد انتهاء أجاثا كريستي من روايتها السابعة “مقتل آكرويد” اختفت في فندق باسم مستعار، وعثرت الشرطة عليها مستعينة بالكلاب البوليسية، قالت في التحقيقات إنها فقدت الذاكرة وصدقها الأطباء بعد الفحص، لكن الجمهور قال إنها تعمدت ذلك كدعاية لإنجاح العمل. وبالفعل كانت الرواية التي جعلت شهرتها مدوية. بالنسبة لكاتب في اليمن، فإن دائرة القلق التي سيثيرها لن تتخطى حدود أسرته وأصدقاء قليلين، إلا إذا طغى على الأمر تكهنات سياسية، مثل عملية اختطاف أو اغتيال سياسي، فإنه لن يكون قلقاً عاماً، بل هاجس يمني لخلق البطولة. لماذا نحن مهووسون بصناعة أبطال؟ وحتى عندما نفتقد وجودهم نختلق أسوأ اشكال البطولة. كل ما في الأمر أن نخباً تقوم باحتيال منظم على المجتمع، لصناعة هذا النوع من البطولة. فالثورة استعان بها البعض لتكريس قائد عسكري كبطل. وأنا سأكتفي بإطلاق عليه اسم الجنرال. كما سأكتفي بتسمية الشيخ كذلك، لأنني اشعر بالغثيان من كثر ما تتردد اسماؤهم. ومن ظهورهم المنتظم في اجهزة الإعلام. حتى أنني اشعر أنهم يلوثون الذائقة العامة بوجوهم الخالية من السمات الواضحة، بل تلك المكتنزة بنوع من الشراهة المنفلتة وغير الممكن السيطرة عليها. أحد المشاركين عن الحراك الجنوبي وصف أحد المشائخ بناهبي الجنوب، فنفى الشيخ وقال: إن الأمر فقط يتعلق بمنزل علي سالم البيض، ثم قال: على الدولة تعويضنا وسنعيده. يا لها من إجابة، فهم يغالون في تصنع دور لا يجيدونه، مع ذلك تسيطر عليهم الشراهة والنهم لامتصاص الدولة. وكان رداً صاعقاً من عضو الحراك فهمي السقاف بإن الدولة التي أعطته الملكية هي دولة احتلال. سنسأل أنفسنا: من يا تُرى الانفصالي، الجنوبي الذي عايش استنزاف مكانه، حيث كانت له دولة، وتحولت بفعل الوحدة انقاضاً، أم شيخ شمالي يتذاكى لتغطية سرقاته. الشيخ الشمالي وضع حاجزاً لإمكانية الحوار، إنه غير مستعد للاعتراف بحق هذا الجنوب، كما أنه في الوقت نفسه لم يتخل عن شرهه لاختلاس الدولة، إنه يطلب تعويضاً، كما لو كانت كل الثروات التي تكونت لهم غير كافية، بل يطلب المزيد. أخوه رجل الاعمال، استدعى بعض الحراكيين وقال إنه لم يستول على متر واحد في الجنوب. رد أحد الحضور أنه بالفعل لأن ما استولى عليه كيلومترات. وهي الحقيقة المرة، الجرح الذي مازال لم يلتئم هناك، وبالنسبة لنا في الشمال كان اعتياداً، لكن الجنوب نبشه لنا، ألا يستحق لذلك منا نحن الشماليين التحية؟. ثم يأتي الأخ الأكبر وهو أكثرهم ظرافة بحسب صديق، ويقول: جميعنا نهبنا الجنوب شماليين وجنوبيين. لكن هذا ليس مبرراً للتغطية على نهبه، غير أن الظرافة لن تتجاوز ذلك الاعتراف. الضباع لا تعترف بحق فرائسها بالحياة، وهؤلاء يرون في اليمن فريسة، لذا هم لا يعترفون بحق جنوب أو شمال مالم تستمر عملية تسمين الغنائم. واحدة من ميزات الحوار، بصرف النظر عن كثير من الأعضاء، أنها جعلت تمثيلها لا يخضع كلياً لمراكز النفوذ التقليدية. وهو ما جعل الشيخ ينسحب، واليدومي، إضافة للنوبلية، التي بدت كما لو كانت تطارد فريسة أكثر من انحيازها لفكرة السلام التي مثلتها عندما تم تنصيبها كإحدى الفائزات بجائزة نوبل. وعملياً هناك تحالف واضح بين الجنرال والمشائخ وجماعة الإسلاميين، لإفشال فكرة الحوار. لكن المعيب أيضاً أن بعض ممثلي المدنية يخوضون حروباً ضد مصالحهم من اجل نفس الهدف. وللأسف لم يطرحوا لنا خيارات بديلة. فالزنداني على سبيل المثل يرسل حلفاءه للتحريض ضد الحوار، وبالتأكيد يستخدمون سلاحهم المألوف، في جعل ما يخالف تواجدهم غير إسلامي، أو بصورة أكثر دقة؛ كافراً. نفس البارونات القديمة تنحاز لمصالحها ضد قيام دولة تمثل اليمنيين. لكن سنجد لمراكز النفوذ مصلحة واسعة لإفشال الحوار، أما بالنسبة لأولئك المفترض أنهم في صف المدنية، ماذا يمثل لهم ذلك؟. وبصرف النظر عن بعض الملاحظات والتقييمات لقوام الحوار، فالمبدأ العام لا يجعلنا نرفضه، وكما قال صديقي نائف حسان إنه سيفضي لوثيقة، وإن كانت نظرية، تمثل مبدأ لدولة نأمل حيازتها. واحد من المواقف الظريفة، أن فتاة جنوبية رداً على موقف لأحد المشائخ قالت إن رأسها داخل المؤتمر كرأس أكبر شيخ. وهذا المظهر الايجابي أن فتاة أوقفت عجرفة المشائخ المألوفة، والفضل لمؤتمر الحوار. لكن البعض يريد أن يجعل من موقف الفتاة أو السقاف بطولة. وهو ما يبدو لي مغالياً بعض الشيء. وهذا لا يعني أن في الموقفين لا يوجد شجاعة. لكنه الواقع اليمني الجديد الذي يجب أن نؤمن به، اتساع الاصوات المقاومة لعجرفة مراكز النفوذ. إنها الزاوية الصغيرة اللافتة لحدوث ثورة. أما حين يظهر أحد قيادات المعارضة القديمة أي المشترك، ويتحدث عن الجنرال باعتباره أحد أركان الثورة. وكثير من الكلام الذي مازال يشكل حتى اليوم أزمة يمنية. فمثلاً الجنرال كواقع هو شخص زائل، وبلا مستقبل حتى لو يفرض على القرار السياسي اليوم الكثير من إملاءاته، فبفعل حركة الزمن لم يعد له مستقبل. غير أن المزعج دائماً تلك الطفيليات السياسية التي تظهر لتنحاز لمصالحها الصغيرة جداً، في خدمة الجنرال. فهناك الكثير من السياسيين يلعبون دور الاراجوز.. فهل سنحتاج لفقدان ذاكرة كأجاثا كريستي، على الأقل غيبوبة صغيرة لنستريح من مداخن السياسة السامة. رابط المقال على الفيس بوك