في تناولات سابقة استعرضت الجزء الأول من مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني، وفيها استخلاصات لحقبة من أهم فترات التاريخ اليمني المعاصر، وتحديداً منذ أربعينيات القرن المنصرم، وحتى قيام ثورة سبتمبر 1962م، لما فيها من تشخيص لمرارات الماضي، ومعاناة الثوار وهم يخططون لهذا التغيير، فضلاً عن الشرح الضاف الذي قدمه الرئيس الإرياني للواقع المأساوي والعزلة الضاربة أطنابها في كل ربوع الوطن خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخ الشعب اليمني. وهاأنذا أقف سريعاً أمام جوانب من الجزء الثاني لهذه المذكرات، بعد أن تكرم الزميل الأستاذ أحمد عبدالرحمن الإرياني مشكوراً بإرسال هذا الجزء إليّ منبهاً إلى أن الجزئين من المذكرات قد صدرا في وقت واحد، وكنت قد أغفلت الإشارة في السابق إلى تزامن ظهور الإصدارين في وقت واحد. في البدء، لابد من التنبيه إلى أن أهمية مثل هذه المذكرات تنبع من كونها تكشف جانباً من التاريخ اليمني المعاصر بكل تفاصيله وملابساته، خاصة تلك المواقف والأسرار والأحداث التي لم يكن العامة على اطلاع عليها، وبات الحديث عنها اليوم مسألة لا تهم أشخاصاً بذواتهم وإنما تعني – بشكل أساس – التعرف إلى طبيعة الظروف بالغة التعقيد والصعوبة التي عاشها المجتمع اليمني إبان تلك الفترة.. وتعني كذلك استفادة النخب السياسية راهناً من تلك التجارب باستيعاب الأخطاء والتعقيدات للحيلولة دون عدم إعادة إنتاجها بشكل أو بآخر. ولا بأس هنا أن نذكر بالعناوين البارزة في هذا الجزء التي رسمت صورة بانورامية لتلك الفترة، حيث كان الرئيس عبدالرحمن الإرياني أحد صانعيها وقريباً من أحداثها؛ وذلك انطلاقاً من ثورة سبتمبر حتى حركة 5 نوفمبر 1967م، مروراً باعتقال رجال العهد الأمامي إثر قيام الثورة وتسلم مسؤولية إدارة النظام الجمهوري ورحلة معاناة الثورة في خصومة أبنائها بينهم البين من جهة والقتال على الجبهات ضد الملكيين من جهة ثانية، وكذلك العلاقة الملتبسة مع مراكز القوى في مصر من جهة ثالثة.. وكلها سيرة من المعاناة والتضحية والسجون والاختلاف والاتفاق رصدتها لنا هذه المذكرات. لقد كانت الأطراف الإقليمية حاضرة في المشهد اليمني في تلك الفترة، لعل أبرز تجليات ذلك الحضور تمثل في مظاهر الاختلاف السعودي – المصري، وانعكاسته على الأوضاع الداخلية وعلى الأطراف اليمنية سلباً وإيجاباً. ولا يتردد الرئيس الإرياني في مذكراته الإشارة إلى الدسائس والتباينات التي طبعت العلاقة بين رجال السلطة في صنعاء بعد الثورة وبين الأجهزة المصرية في تلك الفترة؛ حيث يشير إلى الدور الخفي الذي لعبه عبدالرحمن البيضاني - كما يقول - في الإساءة إلى علاقة الزعيم عبدالناصر ببعض القيادات اليمنية وقول الإرياني للرئيس ناصر: (إن حل المشكلة – يقصد اليمنية – يكمن أساساً في الاتفاق مع السعودية وتطمينها بأن الثورة اليمنية، ليست للتصدير..) غير أن الأمور لم تسر على نحو مرضٍ، خاصة بعد التقاء الإرياني ومعه بعض القيادات بالزعيم عبدالناصر في القاهرة الذي أكد لهم ترحيبه بمساعدة أي من الدول العربية لحل القضية اليمنية، مستثنياً في هذا الصدد مشاركة سورية التي قال عنها وقتها: (إذا كانوا مستعدين للمساعدة مشكورين ونحن سنسحب قواتنا).. ويستنبط الرئيس الإرياني من رد الرئيس عبدالناصر المفاجئ وكأنه خيّر اليمنيين بين التواجد المصري أو السوري وقتها لحسابات لم يشرحها الإرياني في هذه المذكرات. *** مرة أخرى يعود الإرياني إلى القاهرة متحدثاً عن لقاء جمعه بالرئيس عبدالناصر لإقناعه بأن الحرب في اليمن ستطول، طالما والصف اليمني منقسم، مستدلاً على ذلك بقصة القبائل اليمنية أثناء الحرب بين الإمام والأدارسة، حيث كان رجال القبائل يدعون الله أن ينصر الإمام نصف نصر، وأن ينصر الإدريسي نصف نصر؛ وذلك حتى تستمر الحرب ويدوم الارتزاق !. غداً : محاولات للإصلاح . رابط المقال على الفيس بوك