انشغل خطباء المساجد خلال الأعوام الثلاثة الفائتة وما يزالون بالحديث عن السياسة ومشكلاتها.. يحللون الأوضاع داخل وخارج حدود البلد، ويضعون الحلول الناجعة، يبيحون القتل ويكفّرون ويسفّهون الأنظمة والسياسيين والمفكرين والأدباء المختلفين مع توجهاتهم، وكأن الدين محصور في خانة السياسة البشعة، والكاذبة، فيما «الإسلام» دين مكارم أخلاق، وليس فيه أبداً ما يبرر الكذب، خاصة حين يكون مُسخّراً من أجل تحقيق مآرب سياسية دنيئة حتى وإن كان نتيجتها مئات وآلاف القتلى..! يطحن الفقر عباد الله في هذا الوطن المصدوم بأبنائه، والخيرين، العلماء والمشايخ تحديداً.. وتزداد الفجوة اتساعاً بين الأغنياء والمعدمين.. وتزداد صرخات المرضى الذين ينهش الألم أجسادهم وليسوا قادرين على تأمين نفقات علاجها.. وتكتظ السجون بالمعسرين والمنكوبين والمظلومين. يغتال «الإرهاب» الغادر أرواح الأبرياء دون ذنب، ويعربد السرطان والكبد الوبائي والفشل الكلوي فوق أجساد غضة طرية.. استبدلت أماكن اللعب بغرف المستشفيات الموحشة، وشتان بين تلك الأمكنة، فالأولى تعلنهم ضيوفاً جدداً على حياة تتزين بصدى ضحكاتهم الصاخبة البريئة ولعبهم الطفولي الممتع.. فيما الأخيرة تقطفهم قبل أوانهم.. وتعصف بهم غير مبالية بما ستخلّفه من حزن طافح. يختلط أنين الموجوعين والمحرومين بضجيج الخطباء وبتهديدهم ووعيدهم.. وتختلط أمنياتهم البسيطة بقسوة الميسورين من حولهم. وتتلاشى صورة طفل يستنجد لإنقاذه من براثن مرضه الخبيث وسط زحمة الملصقات الإعلانية لجمعيات تطالب الناس بالتبرع للمحتاجين، ولمستشفيات تعلن عن تخفيضات هائلة ومعاينات مجانية، لكنها تصادر الصحة وتنهك الجيوب. وإلى جوارها إعلانات عملاقة لشركات اتصالات مازالت مستمرة في نهب ناس البلد، دون أن تقدم أية خدمااااات حقيقية لهم.. وكلما ازدادت رقعة الفقر وسعت هي نطاق بثها تماماً كالجمعيات الخيرية التي كلما تزايدت أعدادها تضاعفت أعداد الفقراء..!! وسط كل ذلك وأكثر، يواصل كثيرون من خطباء المساجد غيهم السياسي، ويتجاهلون أو يتناسون عمداً أمانة مسئوليتهم تجاه مجتمع أمعنوا في تعذيبه واجتهدوا في سلبه ميزة التراحم والتآخي التي كانت سمة بارزة في مجتمعنا الذي استطاع في حقبة زمنية مضت، الصمود أمام المصائب والمحن بفضل تراحمهم وتوادّهم. إننا نعيش مرحلة فارقة وخطيرة من عمر «اليمن» البلد والناس، ويبدو جلياً كم أصبحنا مختلفين ومتباغضين.. وكم أصبحنا أولي بأس شديد بيننا، لكننا سابقاً كنا نلجأ للمسجد ولرجالات الله القائمين عليها خطباء وأئمة فنجد عندهم العلاج الشافي، وكله بفضل ديننا الحنيف ورسولنا الكريم اللذين علمانا كيف نحب بعضنا ونشفق على بعضنا.. وكيف تمتد أيدينا بالخير دون منّ أو أذى لإخواننا في الدين والجوار. ألم يقل النبي محمد «صلى الله عليه وسلم»: «والله لا يؤمن وكررها ثلاثاً من بات شبعاناً وجاره جائع».. ألم يكن عليه صلوات الله يفيض خيراً ويجود به كالريح المرسلة، أليس هو القائل:«إنما بعثت متمّماً لمكارم الأخلاق»، بل ألم يكن الفاروق عمر رضي الله عنه يحمل المعونات الغذائية لرعيته المعدمين.. ألم تسرد لنا السيرة النبوية وسيرة الصحابة قصصاً تعلمنا كيف نتراحم فيما بيننا، وأن مجتمعاً قوياً لا يمكن أن يكون كذلك وخطباء المساجد مهتمون فقط بالسياسة، وما نتج عنها من فتنة مذهبية مقرفة.