إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقم إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً في الأبيات السابقة للشاعر الكبير شوقي يحدّد شرطاً واحداً مهمّاً جدّاً لتقدّم الأمم وازدهارها؛ بل يربط شوقي في الأبيات بقاء الأمم وحمايتها من الاندثار بشرط الأخلاق, وهذه حقيقة لا غبار عليها مطلقاً, فالجميع في قرارة نفسه يدرك تماماً أن تقدّم كل أمة مرهون بأخلاق شعبها, وكلنا يؤمن أن الأمم لا تتقدّم, ولا تحتل مكانة متميّزة لها بين الأمم إلا إذا تمتعت شعوبها بالأخلاق الكريمة, لكن هل لذلك الإدراك والإيمان أثر ملموس في تفاصيل حياتنا اليومية. لا يخفى على أحد أننا صرنا جميعاً نبدأ يومنا بروتين شتائم وسب هائل يكفي لتعكير مزاج جميع من على الكرة الأرضية بما فيهم الحيوانات, ليس لبقية اليوم وحسب, ولكن لأيام أخرى, بل يخيّل إليّ أن تلك الشتائم لو كانت مداداً لغيّرت لون مياه كل البحار والمحيطات، ولغيّرت لون الأرض برمّتها. يبدأ ذلك الروتين من أول خطوة صباحاً, حتى آخر خطوة تقودنا إلى البيت مشقوقي الرأس, معكّري المزاج, فالسائق يشتم, والراكب جوارك يشتم بالمحمول, المرور كذلك يلاحق كل مركبة بتهديد ووعيد, المُشاة بدورهم تعلو أصواتهم لا يبخلون على ذاك وذاك بسيل من اللعن والشتائم لكل من في الشارع ويخصّون أولئك الذين يطلقون صفارات سياراتهم حتى والإشارة مغلقة. المتسوّلون لا يبخلون عليك أيضاً بالسب والشتم إن أمسكت عن إعطائهم «طفراً» المعلّم يشتم, والطالب بدوره يشتم ويسب، والآباء والأمهات والأبناء, حتى الإعلام ممثّلاً بالقنوات التلفزيونية صارت مجرد أبواق شتم وقدح مستمر, فتلك القناة تذم وتلك تكفّر, وأخرى تبث فيديوهات موت وتشحذ الهمم لخصم هو في النهاية نحن جميعاً. وفي وسط كل جنون قلّة الأخلاق هذه تفاجأ أن الكل مستاء مما وصلنا إليه, والكل ينتقد قلّة الذوق وانعدام أخلاق المنافسة والتعايش, ونحن في حقيقة الأمر جميعاً مذنبون, وكل يدلي بدلوه ليكون الأسبق في ماراثون قلّة الذوق والأخلاق الذي نعيشه وسيوصلنا حتماً إلى النهاية. ولنتلافى تلك النهاية المأساوية؛ علينا أن ندرك حقيقة أن بقاءنا مرتبطٌ ببقاء أخلاقنا, ولنكن أكثر ثقة لنتمعّن قليلاً فقط فيما وصل إليه حالنا بشكل خاص, وحال الأخوة العرب بشكل عام, لنصل حتماً إلى حقيقة مفجعة مفادها أن ما وصلنا إليه هو نتيجة حتمية لكارثة انقراض أخلاقنا بكل تفاصيل حياتنا البسيطة والمعقّدة, وهو أيضاً ما أوصلنا إلى كل هذه الصراعات والحروب, وهو الذي يقف وراء كل هذه الدماء التي تُراق على تراب كل قطر عربي اليوم، فلو وجدت الأخلاق ما وجد العملاء ولا تربّعت الخيانات مراكز السُلطة. إن عجزنا و للأسف عن التحلّي بقيم وأخلاق التعامل اليومي البسيط كان حتماً وراء فشلنا الكبير في اجتياز اختبار الديمقراطية وتبادل السُلطة بشكل سلمي الذي وجدنا فيه أنفسنا فجأة بعد زلزال الربيع العربي. ويبقى السؤال: هل ندرك قريباً حقيقة شوقي قبل فوات الأوان, وانقراضنا لحاقاً بأخلاقنا المفقودة..؟!.