- إعداد :الاستاذ الدكتور / يوسف محمد عبدالله .. في مطلع القرن السادس كان يحكم بلاد اليمن ملك حميري اسمه لحيعة ذي شناتر، وكان هذا الحاكم فاسداً ولعبة بيد الأحباش الذين مدوا نفوذهم السياسي في اليمن من خلال سفارتهم في ظفار عاصمة حمير بالإضافة إلى نفوذهم الديني من خلال الكنائس المسيحية التي بنيت في كل من مدن ظفار وعدن والمخاء ونجران. وكان الملك قبل لحيعة بيد عائلة ملكية اسمها ذي يزين «الأيزون أو اليزنيون» وكانت أصولهم من «بلاد المشرق» أي منطقة وادي ميفعة ونصاب «محافظة شبوة حالياً» ومن ملوك حمير من عشيرة اليزنيين كان التبع اليماني أبي كرب أسعد الذي وحد اليمن كله في عصره واعتنق دين اليهودية خلال إحدى غزواته للجزيرة حيث أقنعه أحبار اليهود بذلك في يثرب. وفي حوالي عام 518م قاد أحد أحفاد التبع اليماني واسمه يوسف ذي نواس ثورة على الملك لحيعة والوجود الحبشي في اليمن وتمكن من قتله ودحر الأحباش من العاصمة وتتبع فلولهم في تهامة وهدم الكنائس التي شيدوها. ولمااستعصت عليه نجران قلعة النصارى والأحباش في اليمن حاصر المدينة عدة أشهر ثم دخلها عنوة وهدم كنيستها وأحرق النصارى في الأخدود «قتل اصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على مايفعلون بالمؤمنين شهود» والأخدود اسم وادي نجران نفسه وكان لحادثة الأخدود صدى كبيراً في العالم المسيحي. وبعد هذه الحادثة بحوالي سبع سنوات تمكن الأحباش «دولة أكسوم» بقيادة ملكها كالب «إلا اصبحا» وبمعونة اسطول رومي «بيزنطي» من شن حرب لاهوادة فيها على ملك حمير يوسف ذي نواس «اليزني» فتصدى لهم في تهامة وبني سلسلة حصون ساحل المندب، ولكنهم تكالبوا عليه وبمساعدة من بقي من أنصار الأحباش في تهامة ففر إلى الجبال وأخيراً لجأ إلى منطقة وادي ميفعة معقل قبيلته وموطن عشيرته، حيث حشد الحشود واعد السفن على سواحل اليمن الجنوبية، ولكن الأحباش جهزوا حملة برية وبحرية للقضاء عليه، وكانت هناك في «قنأ» ميناء اليمن التاريخي «بير علي حالياً في محافظة شبوة» المعركة الفاصلة التي انتهت بهزيمة ذي نواس. ولما أيقن بالهزيمة امتطى فرسه وشهر سيفه وخاض البحر حتى غرق فيه. وبعد أن أقام ملك أكسوم ببلاد اليمن عدة أشهر وضمن تبعية حمير لأكسوم أقام على رأس الحكم في اليمن أحد الأقيال الحميريين وأعلن نفسه نائباً لملك أكسوم اليزنيين واسمه «سميفع اشوع» وخضع لملك حمير الجديد ووفق نظام الحكم الذاتي كل الأقيال والأمراء الحميريين، وان كان قادة الوحدات العسكرية الحبشية قد احتفظوا بكثير من النفوذ مثل ارياط وأبرهة، ولعله كان لهؤلاء القادة قوة عسكرية أكبر مماكان لملك حمير فتمتعوا بسلطة حقيقية أكثر منه. كما كان للأقيال الحميريين قواتهم الخاصة بهم بل كانوا يحسون في كثير من الأحيان أنهم مستقلون عن ملكهم الذي لايتمتع بسيادة كاملة. ولذلك فإن سلطان الملك «سميفع اشوع» لم يدم طويلا إذ سرعان مااهتز عرشه، وقفز إلى الحكم أحد القادة العسكريين الأحباش وهو «أبرهة» بعد أن تخلص من منافسه القوي القائد الحبشي «إرياط» وقضى على نفوذ في اليمن لعدة سنوات. ولما استقر له الأمر أعلن نفسه ملكاً على حمير « أو ملك سبأ وذي ريدان» و«ذي ريدان هي حمير وحضرموت ويمانة وأعرابهم في الطود وتهامة، وهو اللقب الملكي الذي كان يحمله التبع اليماني أبي كرب أسعد جد العائلة اليزنية الملكية. كما أن أبرهة على مايبدو لم يعر اهتماماً يذكر للمثامنة وهم «أبيات» من حمير تشكل مثامنة الملك ومجلسا استشاريا للملك لايصلح ملك حمير إلا به وان اجتمعوا على عزل ملك عزلوه وهو يشبه مجلس المعاشرة الذي كان إلى جانب بلقيس ملكة سبأ قبل ذلك بقرون كثيرة. وقام أبرهة بتوطيد حكم يمني مستقل عن ملك اكسوم بعد أن ضمن مصالحة ملك الروم وبعد أن استفاد من الصراع العسكري المستمر بين دولة الفرس ودولة الروم «الساسانيين والبيزنطين» فكان أن رمم سد مأرب عندما خربته السيول وبنى القليس «كنيسة صنعاء» بشكل ملفت للنظر حتى أصبحت تشبه كنائس الروم في بنائها وزخرفتها. أعمدتها من المرمر وقبابها مذهبة وتحليها الصور وجدرانها مغطاة بألواح من الذهب والفضة وأرضها مغطاة بالفسيفساء وقد فاخر بها المتنسكات الأخرى في الجزيرة وجهز حملة اصحاب الفيل إلى مكة حتى يهدم كعبتها ويصرف الناس عن الحج إليها. وتكمن أبرهة من اخماد ثورة كندية يزنية خلال فترة ترميم سد مأرب إذ أن الاقيال من ملوك حمير لم ينسوا أن أبرهة حبشي وأنهم سلبوا حقهم في الملك وخاصة آل ذي يزن ،كما أن الضرائب الباهضة كانت قد أرهقت أهل اليمن منذ دخلت الحبشة حيث كانت تدفع أولاً لملك اكسوم والآن تدفع لأبرهة. كما أن قبائل معد في وسط الجزيرة«نجد والحجاز» وإن اعترفت بسيادة ابرهة ولكن كان ذلك إلى حين وقد أقام أبرهة علاقة سياسية وتجارية مع المناذرة ملوك العرب في العراق والموالين للفرس ومع الغساسنة ملوك العرب في بلاد اشام والموالين للروم. ولكن أبرهة أخفق في الاستيلاء على مكة وأخفق في كسب ود أهل اليمن وضعفت صلته بملك اكسوم ،واشتهر أبرهة باسم أبي يكسوم ويكسوم هو والده الذي خلفه في الحكم ولأبرهة ولد آخر شارك أخاه في الحكم« واسمه مسروق» وقد التزم كل من يكسوم ومسروق بسياسة ابيهما ولكنهما لم يتمكنا من السيطرة على الحكم طويلاً فقد نهض اقيال حمير وخاصة اليزنيين من سباتهم وبدأوا يسعون جاهدين للقضاء على حكم الحبشة في اليمن نهائياً. وتروي الاخبار أن آل ذي يزن«الايزون» هم الذين اطاحوا بيكسوم بمساعدة الفرس كما تحكي الاخبار أن ابرهة قال لمعاونه الذي انقذ حياته في لحظة مبارزته ارياط منافسه قبل الاستيلاء على السلطة: «اطلب ماتشاء جزاء لصنيعك» فقال له: لا أطلب شيئاً سوى أن لاتنتزع امرأة رجل من أهل اليمن«غير أن أبرهة كما يبدو لم يلب طلبه ولم يستمع إلى قوله فانتزع من أحد الاقيال من ذي يزن امرأته«ريحانه» وكان ذلك سبباً من أسباب العداء المستفحل بين أبي مرة معدي كرب وابنه سيف من ناحية وابرهة ثم ابنه يكسوم من ناحية أخرى وكان أبومرة ابناً للملك الحميري السابق سميفع اشوع ،وبالطبع كان سيف ذي يزن الأقيال حفيده.. وكان الاثنان من جملة من ثار على ابرهة مع قبيلة كنده حوالي«547م» إبان تصدع سد مأرب وترميمه ،وهي الثورة التي اخمدها ابرهة وتصالح مع أقطابها ولم يكن ممن صالحهم أبومرة وابنه فقد تمكنا من الهرب كما يبدو حينذاك إلى خارج اليمن. وتوجه أبومرة وأولاده إلى بلاط قيصر الروم بحثاً عن العون ضد الاحباش في اليمن ولكن صلة القيصر التاريخية مع الحبشة وأبرهة لم تسمح بتقديم تلك المعونة وطالت المماطلة وقيل أن ابا مرة أقام ببلاد القيصر حوالي عشر سنوات. ولما يئس أبومرة من الحصول على عون القيصر في بلاد الروم فإنه اتجه هذه المرة إلى الفرس الذين كانوا في صراع مرير مع الروم ،فزار أولاً عمرو بن هند بن المنذر وأمه الأميرة الكندية«اليمنية» هند وكانت مثل أبي مرة نصرانية. وكان اللخميون«ملوك المناذرة يفدون على البلاط الساساني في المدائن كل عام فاصطحب الملك عمرو بن هند في احدى زياراته أبا مرة وابنه سيف معه إلى البلاط الساساني وقدمهما إلى كسرى أنوشروان «الشاهنشاه خسرو» وكانت فرصة ثمينة للأمير اليزني الذي تحدث عن احوال بلاده اليمن وماتعانيه من ظلم واحتلال وأذى ،والتمس من كسرى النصرة ضد اعدائهم من الحبشة. ولم يكن البلاط الفارسي أفضل من البلاط الرومي فقد ماطل كثيراً أيضاً ،ولم يشأ كسرى أن يغامر بحملة عسكرية غير محسوبة خاصة وأن الأمر جد وينبغي أن ينظر إليه في اطار معطيات العصر انذاك ووقائع الاحوال السياسية القائمة بين الفرس والروم. ومات أبومرة في المنفى ببلاط كسرى فقام بالأمر بعده ولده سيف واستمر في المحاولة حتى اقتنع كسرى بطلبه وجهز له جيشاً قيل أنه جمعهم من السجون ولكن معظمهم كانوا من الاساورة والنبلاء الذين زج بهم في السجون خوفاً من معارضتهم له وعين لهذا الجيش قائداً اسمه«وهرز» وقال كسرى قولته: إن فتحوا فلنا وإن هلكوا فلنا.. فركب الجميع من الأبلة في ساحل «الخليج» ومعهم في سفنهم خيولهم وعددهم، وساروا في البحر حتى وصلوا سواحل حضرموت «سواحل اليمن على بحر العرب».. وكان ذلك في مصب وادي ميفعة في مكان ميناء قناً الذي يشرف عليه جبل حصن الغراب «بئر علي» «وقد عثر على جبل حصن الغراب نقش سميفع أشوع الذي سجل فيه نهاية يوسف ذي نواس وذكر ملك حمير وسميفع بعد أن نصبه الأحباش ملكاً على عرش حمير وتابعاً لهم». وخرج الجمع من السفن فأمرهم وهرز أن يحرقوا السفن «إنه الموت ولا وجه يؤملون المفر إليه فيجهدون أنفسهم» ولما وصل الجيش الفارسي ومعه سيف الساحل سارع اليزنيون ومن معهم من الأنصار في تلك البقاع «وهي موطن العشيرة ومنطقة النفوذ لآل ذي يزن وفيها لهم أموال عظيمة» سارعوا إلى استقبال الجيش وانضموا إليه استعداداً للقاء العدو يكسوم الملك الحبشي الاجنبي، وتمكن الفرس وأهل اليمن من الناقمين على حكم يكسوم من كسر جيش الملك الحبشي وقتله.. ودخل سيف بن ذي يزن ومعه وهرز صنعاء دخول الفاتحين بعد أن هزموا الأحباش وأخرجوهم من بلاد اليمن. وعندما سمع خبر ذلك الانتصار الكبير أتت وفود وسفارات من مختلف القبائل العربية في وسط الجزيرة وشمالها لتهنئة سيف بن معدي كرب ذي يزن باعتلاء العرش وإجلاء الحبشة من اليمن. وكان من جملة من حضروا للتهنئة عبدالمطلب بن هاشم من مكة وأمية بن أبي الصلت الشاعر وخويلد بن أسد عبدالعزي بن قصي وغيرهم.. فدخلوا على سيف وهو في أعلى قصره بمدينة صنعاء المعروف بقصر غمدان.. وتكلمت الخطباء ونطقت الزعماء وأنشد الشعراء وكان مما قاله ابن أبي الصلت: ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن في لجة البحر أحوالاً وأحوالا حتى أتى ببني الأحرار يحملهم تخالهم في سواد الليل احبالا لله درهم في عصبة خرجوا ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً في رأس غمدان دار منك محلالا ثم اطل بالمسك اذ شالت نعامتهم وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لاقعبان من لبن شيب بماء فعادا اليوم أبوالا وقام سيف ملكاً على اليمن وعاد وهرز إلى فارس واصطنع عبيداً من الحبشة يمشون بين يديه بالحراب، فركب في بعض الأيام من باب قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء، فلما صار إلى رحبتها عطفت عليه الحرابة من الحبشة وقتلوه بحرابهم.