عبد الوهاب قطران من كان يتصور أن زمن الجوع، والقحط، والجدب، والعطش، والفاقة، والتصحر، سيعود إلينا من جديد؟ هل يُعقل أن نُصبح شهودًا على فصول من زمن المجاعة ونحن أبناء الوفرة، وانبياء العنب، وسلالة البر والشعير والخير؟ هل علينا اليوم نجم سهيل اليماني، نجم المطر والخصب والبركة؟ سهيل الذي قالوا عنه في المثل: "في ليلته سبعين سيل، وفي سهيل أقطف كحيل". كنا نعرف أن قدوم سهيل يعني قطف العنب الأسود، المكتحل، من العيون الكحلاء . واليوم، في أول يوم من نجم سهيل، سقطت أولى قطرات الغيث بعد قحط دام سنة كاملة. لكنني لم أفرح، بل عاد بي الزمن ثلاثين عامًا إلى الوراء، حين كنت فتى يافعًا أفلح الأرض وأزرع العنب في همدان. يا لها من أيام. كنا نعيش حياة سعيدة، بسيطة، هانئة، لا يعرف فيها القلب ضيقًا ولا الجيب خواءً. نأكل مما نزرع، ونشرب من ماء أرضنا، ونلبس من خيرات مواسمنا. كانت أرضنا كريمة، سخية، معطاء. وكنت اشعر دائما أننا أغنياء، نتمرغ في الخضرة والماء والنعيم. أجمل سنوات العمر، التي حفرت في الذاكرة والروح، هي تلك الواقعة ما بين منتصف الثمانينات ونهاية التسعينات. كانت قريتنا جنة خضراء. المياه السطحية قريبة، باردة، متدفقة. كل فلاح يمتلك بئرًا ارتوازية، وبعضهم اثنتين وثلاث. في عام 1983، حفرنا بئرنا الأولى، وكان عمري خمس سنوات. لا زلت أذكر ذلك المهندس الهندي وهو يتفنن فوق أذرع الحفار، عينه معلقة بالطبلون والساعات، حتى انفجر الماء بحرًا على عمق 30 مترًا فقط. ركّبنا بعدها ماطور وبنبة "شم النصراني عرضها"، اشتريناها من السنيدار، ودفعنا قرابة أربعين ألف ريال لحفر البئر، وأربعين أخرى للمعدات. ومددنا مشاريع حديد قطر 4 إنش لمسافة كيلو شمالًا. وصارت بئرنا تصب ماءً باردًا زلالًا، تسقي أرضنا غمرًا. كنا نزرع العنب بمختلف أنواعه: الأسود، العاصمي، العرقي، الرازقي.الزيتون الاطراف العيون.. وكانت المزارع مليئة بالفواكه: ، تين شوكي، فرسك حميري، خوخ، تفاح بلدي وخارجي، سفرجل، رمان، بلس اسود، جوز… ونزرع أيضًا كل أنواع الخضار، وخاصة الطماط. وكنا نزرع الحبوب و نحصد 300 قدح شعير، و250 قدح ذرة، و150 قدح بر بلدي، ونزرع الحلبة، الكبزرة، القضب وصيبه. وكان إذا حلّ نجم سهيل، كنا في بحبوحة؛ العنب بدأ يطيب، والذرة للحَقو قد سهيل رباها. وكان ياتي نجم السابع وكلا من ماله شابع .. وكنت حينها أسمع حكايات كبار السن، من أمثال المرحومين: أحمد يحيى فارع، وأحمد شوته، وقايد جابر، والحج أحسن. كانوا يقولون لنا: "يا عيالنا، أحمدوا الله… أنتم في نعمة، إحنا جُعنا وعرفنا زمن المسنّى، عرفنا الجدبة، والقحط، والمجاعات…" أذكر أن أحمد يحيى فارع حكى لي كيف كانت قريتنا الجاهلية همدان أرضًا قاحلة، لا ماء فيها إلا بئر أو بئرين مسنى، وكانوا يطعمون البقر والحمير قصبًا يابسًا، وكانت أجسادها نحيلة كالعظام. حدثني عن أزمنة المجاعة، عندما كان الناس يأكلون العصيدة بشراهة في مقالي الغرم بعد دفن الجنائز ، وكلما أكلوا ازدادوا جوعًا. وروى لي كيف جاء إليهم ذات مرة فلاحين من بني حشيش، يعرضون عليهم القدح بر بقدحين زبيب رازقي مثل اللحم، ورفضت والدته أن تفرّط في مدفنها من الحب خوفًا من الجوع. وحكى لي المرحوم أحمد عبدالله شوته أنه باع مائة لبنة أرض زمن الإمام يحيى ليسدد الزكاة و"حق بندق بيت المال"، ثم رجع إلى بيته ولم يجد فيه حتى كسرة خبز. فبكى وانتحب وهو يردد: "بعت مائة لبنة… ولا قدرت أتعشّى من قيمتها!" كنت أظنهم يبالغون، فأنا أعيش في جنة همدان، وسط العنب والخيرات، نشرب من بئرنا، ونزرع في ارضنا الشاسعة كل شيء. كنا نشعر أننا في نعيم وجنة، حتى الفلاحين من قرى أرحب، حاشد، عيال سريح، وعلاو همدان كانوا يأتون ليشتغلوا عندنا. وكان والدي كريمًا إلى حد العجب. أذكر كيف كان يخصص سريف كامل من حبلات العنب خريف فقط للهدايا، من جربة "الادرية". حبلة تهدى لالسيد أحمد، وحبلة للفقيه العلفي، وحبلة للفقيه الأكوع، وحبلة للحج أحسن… وما تبقى نوزعه نهاية الخريف على اصدقاء الوالد و الأقارب والاصهار بصنعاء ومن طلب عنبًا… أعطيناه تنكًا. في موسم الحصاد، كنا نعبئ عشرات البراميل من الجرن الواقع جنوب الدار. وتظل البراميل المليئة بحبوب الذرة والشعير والبر مرصوفة شهورًا بالجرن ، حتى تغضب جدتي، وتعنف والدي وعمي لإهمالهم إياها بالجرن. ثم نحمّلها فوق الشاص، وندخلها المدّنة حتى تمتلىء ببراميل الحب. كنا نبيع عنبًا وخضارًا وفواكه بمئات آلاف من الريالات، تعادل الآن عشرات الملايين. لكن من مطلع القرن الجديد، بدأ الانهيار: جفت مياه الآبار السطحية، ثم الجوفية. بئرنا الأولى التي حفرناها عام 1983 جفّت عام 1997. حفرنا ثانية، وثالثة، ورابعة حفرناها عام 2006م... كلفتنا بعنا المزرعة التى بتهامة 11 معاد . ومنذ نكبة 2011، ومع أزمة الديزل الدورية وارتفاع أسعاره، بدأت أشجار العنب والخوخ تموت، وانكمشت مساحات الزراعة. باع المزارعون أرضهم ليشتروا طاقات شمسية، لا لزراعة العنب، بل لزراعة القات فقط! ومات العنب، والفرسك، والذرة، والبر، ولم يعد يُزرع إلا ما يُمضغ ويُخدر. هذا العام كان الأسوأ… قريتنا عادت صحراء، تمامًا كما وصفها الأجداد. جفت الآبار، ومات ما تبقى من أعناب. تقلصت زراعة العنب إلى أقل من 1%، ولم يبقَ من الزراعين سوى ثلاثة أو أربعة. لم أعد أصدق… هل يعقل ان زمن الجوع والقحط عاد؟ لازلت غير مستوعب اننا سنحس ونشعر بالجوع ونعيشه ونرى القحط باام اعيننا ! هل يُعقل ان نجوع ونحن ملوك عنب اليمن !! وأننا وصلنا إلى زمن لا عنب فيه، ولا شعير، ولابر ولا خوخ، ولا تفاح؟ نحن الذين كنا نعيش في النعيم، نشبع من زبيبنا، ونتخم من خير أرضنا؟ أين ذهبت فرسك بيت الحسام التي كانت تملأ اليد، لم أذق في حياتي مثلها؟ أين عنب الخامس الذي كان يسكر الطيور؟ أين مواسم الوفرة؟ أين عنب الخريف؟ أين براميل البر والشعير؟ أين ذلك الزمان؟ وأين ذهب الوطن؟ أخشى أن لا يعود ذلك الزمن أبدًا… على الأقل، ليس في أعمارنا الباقية.