يسمونه الأستاذ غريب ويناديه البعض بالدكتور غريب.. والأستاذ غريب هذا هو من الحالات التي ينطبق فيها الاسم على المسمى كما يقولون فهو شخص غريب وعجيب بكل ما تحويه الكلمة من معانٍ ،شخص يجمع بين مفارقات شتى ومتناقضات عدة ولكنه مع ذلك إنسان اعتيادي يمارس كافة طقوس الحياة مثله مثل أي إنسان. ستسألونني: كيف؟ أقول لكم كيف: الأستاذ غريب لم يعرف الهناء قط طيلة حياته،إنه يبدو وكأنه في حالة خصام دائم مع السعادة ، ومع ذلك قلما تجده حزيناً أو متبرماً فهو يبدو في حالة مرح دائم،لاتفارق الابتسامة شفتيه بمناسبة وبدون مناسبة، ينفجر قهقهة لأتفه النكات والطرف،تحاصره المشاكل والآلام فلا يأبه له وتجده يتألم لأبسط محنة يتعرض لها هذا الإنسان أو ذاك،يشفق على المرضى وهو الذي يعاني مرضاً مزمناً لاأمل في الشفاء منه...يتحسر لأحوال الفقراء وهو الفقير المعدم الذي لايمر شهر إلا ويستدين فيه أضعاف المرتب الذي يتقاضاه لاستيفاء لوازم المصاريف الشهرية على أسرته المكونة من أحد عشر فرداً..ينصح الآخرين بالتقشف وهو الذي لا يستقر الريال في جيبه يوماً واحداً..يعاتب الذين يكثرون من إنجاب الأطفال وهو الأب لثمانية من البنين والبنات والبقية تأتي...يقدم الخير والإحسان للآخرين وغالباً مايكافأ بالنكران والجحود. الأستاذ غريب له قصة مع اليوم العاشر من كل شهر،ففي هذا اليوم يكون الأستاذ غريب قد أنفق آخر ريال من مرتب الشهر الماضي، بمعنى أن عليه أن يبحث عن مصدر جديد لتدبير نفقات الأسرة لما تبقى من أيام الشهر. لكن ميزة هذا الشهر أنه يتزامن مع بداية العام الدراسي بما يتطلبه من مصاريف استثنائية مقابل مستلزمات المدرسة من دفاتر وأقلام وملابس وأحذية ورسوم دراسة وسواها مما تتعملق أسعاره من عام إلى آخر بشكل خرافي مقابل المرتب الضئيل الذي يزداد تقزماً وهو ما أوقع الأستاذ غريب في «حيص بيص» كما يقولون. في الشارع مر به أحد المتسولين الذين ازداد عددهم هذه الأيام بشكل لافت للنظر وطلب منه بصوت تملأه المسكنة والانكسار والمذلة: "شي لله يا أخي... الله يفتح عليك" وقد شعر بحرج كبير من الموقف،وبصعوبة شديدة قال له: "الله كريم ياوالدي" ولكن المتسول وقبل أن ينصرف خلع لغة المذلة والمسكنة وصرخ في وجهه: ياراجل حرام عليك! تبخل على المسكين حتى بخمسة ريال..ياراجل استحي على نفسك استحي...ألا تخاف من ربنا؟! وأمام كشك الجرائد وبعد أن تصفح عناوين معظم الصحف والمجلات دون أن يشتري واحدة منها استوقفه أحد زملاء الدراسة الثانوية وترجاه أمام الباعة والمشتريين بأن يمنحه خمسين ريالاً على سبيل الاستلاف. وكان موقفه في غاية الحرج فهو لايود أن يرى أحد رده السلبي على طلب زميله وليس لديه ما يعطيه،وقد انفرد بالزميل بعيداً عن أنظار الجمع وحلف له بأنه لايملك حتى ريالاً واحداً ولكنه وعده إلى مابعد تسلم المشاهرة،غير أن الصديق انصرف غاضباً وقال له أمام الجميع: وهل تعتقد أنني سأصدقك؟..دكتور..وموظف حكومي...ونظارات..وبنطلون ..وأبهة ولاتملك خمسين ريالاً"؟..حقاً لقد ولى زمن الحياء. وانصرف الرجل غاضباً. في سوق السمك وقف الدكتور غريب محتاراً أمام نداءات الباعة فهذا يصيح: الثمد يادكتور ! وآخر يناديه: اللخم ياأستاذ ! وثالث يدعوه: الزينوب ياأستاذ غريب،الخط بمائة والصغير بخمسين! ورابع يعرض عليه الديرك وخامس الباغة «1». وكان يقف خجلاً محتاراً ليس لأنه لايدري ماذا سيفضل من أنواع السمك،لكن لأنه لايستطيع أن يشتري شيئاً..ماذا عسى أن يقول؟هل يقول لهم ليست لدي نقود؟..ومن سيصدقه؟ فكر في أن يطلب من أحدهم إعطاءه بالآجل ولكنه استثقل الأمر واحتار كيف يتخلص من البائع الذي يلح عليه بأن يشتري منه،ولعن اللحظة التي فكر فيها بدخول سوق السمك وأخيراً اهتدى إلى حيلة للتخلص من هذا المأزق بأن سأل البائع: إلى متى ستشتغل؟ إلى الساعة الواحدة ظهراً..لكن السمك بايكمل يادكتور! طيب ..طيب سأعود بعد قليل. وانصرف يتنفس الصعداء حامداً الله على التخلص من هذه الورطة وأقسم أن لايدخل سوق السمك إلا وفي جيبه شيء من النقود. ذات مرة التقى الأستاذ غريب صديقه محمد الحسيني وهو صديق قديم منذ أيام العمل المشترك في إحدى المدارس الريفية التقاه في إحدى الإدارات بعد فراق دام سنوات،وبعد العناق والمجاملة والسؤال المتبادل عن الأحوال اقترح غريب على صديقه محمد أن يأتي معه إلى المنزل لتناول الغداء معاً ولم يمانع الصديق. وكانت ورطة لن ينساها غريب مدى الحياة فالمنزل خال إلا من قليل من الأرز والسكر ،والتاريخ قد تجاوز العاشر من الشهر،واستضافة صديق عزيز تتطلب ما لايقل عن ألفي ريال،لقد كان عليه أن يبحث عن مبلغ كهذا لتدبير نفقات وجبه لائقة بصديق عزيز،وهو يعلم أن فرخ الدجاج يتطلب ثلاثمائة وخمسين ريالاً وكيلو الطماط ستين ريالاً وقس على ذلك البصل والبطاط والسلطة وبقية اللوازم. وعاتب نفسه: ترى كيف أوقعت نفسي في هذه الورطة العويصة! وفكر في سوق السمك ولكن حتى هذا من أين سيتدبر تكاليفه وهو يعلم أن سعر الكيلو السمك أكثر من ثلاثمائة ريال بينما لايملك حتى العشرة ريالات! في طريقه إلى السوق التقى عشرات الأصدقاء وهو يعلم أن بعضهم بحوزته المئات«إن لم يكن الآلاف» من الريالات ولكن كيف له أن يجرؤ على طلب أحدهم ولو مبلغاً ضئيلاً لمجابهة هذا المأزق الذي أوقع نفسه فيه. وأخيراً التقى جاره يوسف،وبعد أن تصبب عرقاً من جميع المسام وبعد مقدمة طويلة عريضة راح الأستاذ غريب يشرح لجاره يوسف كيف أنه وبطريقة الخطأ ارتدى القميص الجديد ونسي النقود في جيب القميص الآخر وأنه محتاج إلى مبلغ ألف ريال وسيسددها بعد أن يعود إلى المنزل،ولم يتردد يوسف في إعطائه المبلغ المطلوب،وكانت وجبة عامرة بالسمك و«الصانونة»«2» فرح لها الأطفال أكثر من فرحتهم بيوم العيد ،أما الضيف فقد شكر صديقه من الأعماق على حسن الاستقبال وكرم الضيافة وصدق المشاعر. غير أن الدكتور غريباً ظل يتحاشى اللقاء بجاره يوسف وكان يتخفى منه كلما شاهده طوال أيام الشهر حتى يوم تسلم المرتب الشهري. 1 الثمد،اللخم،الزينوب،الديرك والباغة أسكاء لأنواع من السمك. 2 الصانونة:وجبة مطبوخة من الخضار مخلوطة باللحم أو السمك أو بدونهما وفهي من الطبخات الشائعة في اليمن.