النخب الفكرية والثقافية والسياسية ليست مفصولة عن الجماهير بل انها جزء حيوي من الذاكرة العامة للأمة، حيث إن تلك النخب أشبه ما تكون بالفيض المعرفي والعطاء النوعي القادم أساساً من طاقة الجماهير وقابلياتها وثقافتها العامة.. لذلك فإن النخب تتماهى طرداً مع الأوضاع المجتمعية والتطورات التاريخية والثقافية في تلك المجتمعات، حتى إنه يمكن القول إن نخب العالم تتشابه وتتفارق في آن واحد، فاليساري الألماني ليس كاليساري الصيني، والسياسي الليبرالي البريطاني ليس كالسياسي الليبرالي العربي. الأصل في المعادلة هو أن النخبة تعيد إنتاج ثقافة الشعب الذي إليه تنتمي بالرغم من قابلياتها لتجاوز بعض محطات تلك الثقافة، لذلك نرى أن أحزاب المعارضة في العالم العربي لا تختلف جوهرياً عن أحزاب السلطة؛ لأن منطق الهيمنة والاستبداد أصل أصيل في الثقافة السياسية السائدة سواء كانت في إطار المعارضة أم السلطة. مثل هذا الحال يشير إلى فداحة الخلل في النخب العربية، وكيف أن هذا الخلل موصول بثقافة الإلغاء والتكلس الموروثين من عهود الضلال والظلام. كما تشير هذه المسألة إلى طبيعة التغيير المطلوب في البيئة السياسية العربية، وكيف أن الجماهير العربية تتعرض لتشوهات نفسية وسلوكية جراء الأخطاء الكبيرة للنخب العربية التي استمرأت تأجيل النظر في القضايا الملحة، ورفض التغيير والإقامة في مرابع الطمأنينة الواهمة لثقافة الأنا التي لا ترى ما سواها. لقد كان للمفكرين والفلاسفة نظرة متواترة تجاه هذه العلاقة الملتبسة بين الشعب والنخبة، وأفردوا لها مساحات أساسية في تنظيراتهم ومقارباتهم كما رأينا عند ماركس ونيتشه والفارابي وأفلاطون.. فالجميع يتّحدون في رؤيتهم العلاقة بين النخبة والجماهير سواء بالتركيز على الثنائية الظاهرة أم بالتركيز على دور النخبة السياسية كما فعل ميكيافيللي في «الأمير» عندما اختزل النخبة في شخص القائد. الفرنسي «جو ستاف لوبون» هو الوحيد من المفكرين الذين سجلوا سبقاً تاريخياً في الحديث عن سيكولوجيا الجماهير، وهو صاحب المقاربة المهمة في هذا المجال، حيث استبطن فيها تاريخ الثورة الفرنسية الكبرى متخذاً فلسفة التاريخ منطلقاً لرؤيته، وناظراً إلى الدور السلبي للرعاع من الجماهير عندما تقاد من نخبة شريرة. إن إعادة النظر في ثنائية «الاتصال/الانفصال» بين النخبة والجماهير تعني إعادة النظر في آليات البنية العربية بحثاً عن الخلل وترميماً لما استعصى على التطور، وإذا لم يفلح الترميم سيأتي التدمير تحقيقاً لنظرات «نيتشه» القاسية والتي تبدو أحياناً أقرب إلى منطق التاريخ. [email protected]