أحضري لي كوب الماء ، لا تقفي هكذا أمام النافذة، إن المارة ينظرون لك. إنها العجوز ، دائما ما تصيح بصوتها العالي المبحوح ، منذ الصباح الباكر تجلس على المقعد في منتصف الصالة ، تتأمل المكان. عيناها تراقبان كل شيء وبدقة لا تتناسب مع سنوات عمرها الستين . تنظر إلى أمها، بمزيج من اللامبالاة، والضيق، كانت قد بدأت تشمئز من مراقبتها المستمرة لها، لم تكن هذه المراقبة عادية، إنها تشعر بأنها مراقبة أنانية، مفرطة، مستفزة ، فيها نوع من الظلم والإهانة لها، من أم تبالغ في سلوكها مع ابنتها.. تأففت في صبر ، كادت أن تصرخ في وجهها، ولكنها آثرت الصمت، فهي لا تريد أن يسمع الجيران صوتها ، وشجارها الدائم مع أمها على أتفه الأسباب .. انتابها في هذه اللحظة شعور ، تمنت لو كان هذا الشعور يشبه الحمل الكاذب، ولكنه شيء حقيقي ، تراه في الواقع ولا تستطيع رغم كل ذلك أن تتجاهله ،كانت تشعر بأن هذه الأم سوف تظل تراقبها، مراقبة أبدية، ولن ينتهي هذا الحصار أبدًا، إذا ما ظلت على قيد الحياة، كانت تفكر في هذا الموضوع وهي تراقب أمها بطرف عينيها .. انتهت من رفع الصحون وحملتها إلى المطبخ، تأملت الأرضية القذرة، لقد بدأت تتكاسل منذ فترة عن تأدية أعمالها المنزلية، ضايقها جسدها قليلاً، وذلك الثوب السماوي الواسع، لقد تركت جسدها دون أن تعتني، سمعت صوت المذياع يأتي من الخارج، من نافذة المنزل المجاور، أغنية حزينة، تشعرها بالخوف والحزن من الآتي، تذكرت آخر حب لها،فكرت به، حاولت أن تقنع نفسها، كانا لابد أن يتزوجا، رغم عدم اقتناعه بثرثرتها المبالغة في الإلحاح لإتمام هذا الزواج، الآن هي وحيدة، وليس لديها أحد، ولا تشعر بأي إحساس تجاه أحد، ألم تكن والدتها تريدها أن تكون هكذا؟ في لحظة بدأت تشعر بالاشمئزاز من كل شيء حولها، وانتابها إحساس بالغثيان والرتابة في كل شيء.. تذكرت وحدتها، وكيف تقضيها في مساحات هذا المنزل الصغير ؟ لقد حفظت كل ركن فيه، كل زاوية ، كل مساحة ضاع لونها مع الزمن ، فبعد أن تنام العجوز، يظل المنزل خاليًا، وتظل هي وحيدة في غرفتها تكتفي في التحديق من النافذة إلى هذا العالم، المنازل الخشبية المتجاورة، الهدوء اللا متناهي،.. أن تكون وحيدة، فهذا أفضل لها، دون رجل يضايقها ويملي عليها طلباته،كان كثيرًا ما يملي رغباته عليها، وكانت تتلقى ذلك بكل صمت،عادت إلى غرفتها، تأملتها بصبر، جلست في مقابل النافذة، لا يزال صوت الأغنية يأتي من بعيد، لا تريد ألمًا ولا حزنًا ، ليس في هذا اليوم، تذكرت أيامًا جميلة كانت معه، لقد دخلت السينما لأول مرة وشاهدت فيلمًا أجنبيًا، لا يمكن لها أن تنساه، إنها تتذكره كل يوم، بكل تفاصيله ، حتى تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تخجل من ذكرها أمامه ، وحين يأتي الليل وتنام تحت لحافها ، وتضع سماعة الهاتف على أذنها ، تحدثه والتفاصيل الصغيرة تعود إلى ذاكرتها ، فيسقط حاجز الخجل بينهما وتحدثه بها كانت تحبه ،وكلما استبد بها الشوق إليه، تتذكره بإلحاح مبالغ، لقد أحاط خصرها بحب، وطيلة الفيلم كانت عيناه تتجهان إليها، محلات وأسواق وشوارع وبشر وقطط وكلاب، وسيارات كبيرة وأخرى صغيرة ، سارا معًا، دون أن ينظرا إلى الخلف، رسما معًا حلمًا جميلاً، وفي لحظة، تلاشى الحلم، لم يعد لديها سوى ذكريات مهملة، حزينة، ووجه شاحب تتذكره كل يوم وتضحك في مرارة، اليوم، غدًا وبعد غد، وقبل أسبوع وبعد شهر وبعد عام، وبعد عشرة أعوام كلها نفس الأيام، تأملت بقايا التقويم المعلق في غرفتها، كل الأيام تتشابه في رتابتها، لابد أن تفعل أي شيء حتى تغير من حياتها، سوف تدعو جاراتها إلى هنا، وتتحدث معهم في كل صفاقة، بأنها ستكون زوجة بدينة وأمًا لخمسة أطفال، وسوف تتحدث في كل الأمور دون حياء منها في الحب والزواج والعشق، والطلاق، ولن تكون حياتها هكذا ، سوف تتغير لن تذهب مع زوجها لترى نفس الفيلم، سوف تغير حياتها لأنها تعبت، ارتفع صوت المذياع أكثر، أغلقت نافذتها، وانخرطت في بكاء حاد، لن يتغير أي شيء في حياتها.. لن يتغير أبدا..هكذا تشعر .. ü قاصة إماراتية