صوت الغراب ينعق والهدوء يملأ المكان، تناهى إلى مسمعي صوت جماعة من الناس وهي تنشد نشيداً جنائزياً في تكرار رتيب ممل ، وكلما اقترب الصوت يزداد توتر ونعيق الغراب وكأن هذا النشيد يثيره ويشد من أعصابه ، يزداد الهدوء الشديد ويقترب الصوت أكثر .. وأكثر. أحسست بقشعريرة تغمر جسدي ، وتملأه خوفاً ، قدماي تنغرسان في الأرض وصوت الغراب بمثابة نداء لمجموعة أخرى من الغربان . توافدت من جهات عديدة واشتد النعيق وكثر ... كأنهم يرددون هذا النشيد بانسجام واستهلال ، يقترب الصوت أكثر وأكثر ويساورني خوف شديد.. رأيت أمامي الموكب الجنائزي ، مجموعة صغيرة من الناس ذوي أجساد هلامية يتصبب منها عرق شديد ، حفاة ، عراه ، ما عدا ساتر خفيف من ورق الشجر لا يكاد يستر عوراتهم يحملون نعشا قد تغطى بقطعة قماش سوداء مزركشة بآيات قرآنية عديدة نظر إلى أحدهم قائلاً : سبيل .. سبيل .....؟ وأشار بيديه إلى أحد أركان النعش الذي يبدو أنه يثقل يديه وينهكهما ، كان وجهه مألوفاً بل أن كل تلك الوجوه مألوفة، ولست أذكر أحداً ... نظرت إلى الرجل (وهو مازال يشير إليّ كي أحمل عنه) ببلاهة شديدة ورفض عنيد، اشتد النعيق وكأنه يشارك في نعي تلك الجنازة التعسة ... وفجأة برز وجه من داخل النعش وفي صوته رنة خوف واستغاثة يصرخ .. أغيثوني .. أغيثوني ...؟ اشتد نعيق الغربان التي تجمعت فوق أطلال رأسي وازداد خوفي ورعبي وتسارعت نبضات قلبي بلهفة وشوق وصول القادم الجديد وبداخلها يقبع ثعبان أسود مخيف قد برزت أنيابه واضحة وهو يضحك بسادية مرعبة تبعث قشعريرة في أقوى النفوس . وكأنه قد فرح باستقباله لذلك الزائر .. عاودت النظر إلى الصارخ المستغيث ، رأيت جسدي يتلوى من حريق يشتعل بداخله ، يصرخ بداخل النعش أغيثوني ... أغيثوني ... ولا أحد يستمع إليه أو يجيبه فهم جميعاً في حالة من الذهول يمضون في تسلسل رتيب وصمت مهيب وكأنهم يؤدون صلاة روتينية وصراخي آيات قرآنية تتلى عليهم فتزيدهم خشوعاً فوق خشوع. لمحت من بعيد رجلا نورانيا يلبس ثوباً أخضر ، تملأ وجهه لحية منسقة مهذبة تظهر عليه آثار التقوى والصلاح ، يلوح بيديه يدعوني كي أقترب منه شعرت بأنه يود أن ينتزعني من التابوت الأسود الذي غطى كل لحدي ومنع بصيص من نور ينفذ إليه ... كان يلوح بيديه وكنت أحاول نزع قدمي من الأرض ولكنها رسخت في موطئها وأبت الحراك .....؟ وفجأة أيقظني رنين الساعة يدق معلنا النصف الأول من السابعة صباحاً فتثاءبت في كسل وتراخ وحركت شوكة الراديو باحثاً عن أخبار الصباح.