في الليل.. الظلام الكثيف يلتهم كل شيء، الأشياء الألوان وحتى الملامح.. في مكان ما أزدحم بأشجار السدر.. كان الطريق الضيق مكتظاً بالمفاجآت.. ووسط الغسق لا بد وأن ينبثق شيئ.. شبحٌ في هيئة إنسان ارتدى قميصاً أبيض اللون.. أما سرواله فله لون الليل الداكن.. بداً كأن نصفه العلوي طائرٌ مع عصف الريح في الطريق الضيق.. عيناه شعلة من نار.. بريقٌ مدّه أماماً وعزم أن لا يلتفت يمنياً أو يساراً.. ظلل الغسق جبهته العريضة.. وملأ نفسه سكوناً وحذراً.. سار ببطء ثم آب راجعاً.. عندما أحس صوتاً كحفيف الأفعى لامس أذنيه.. شيءٌ له أطراف يكاد أن يلتصق برقبته، كتفيه وظهره، ندت من صدره آهة رعبٍ وأغمض عينيه.. وأدرك. أن نهايته قد أضحت وشيكة.. امتشق يديه وأدارهما في اتجاهات مختلفة وبحركات سريعة، عندما لصق به ذلك الشيء وجثم على صدره.. حاول التخلص منه، لكن دون جدوى.. هذا الوحش الرابض فوقه يكاد أن يجهز عليه.. لا سبيل للخلاص منه غير القتال.. وبإصرار أغمض عينيه بقوة ثم أخرج من جيبه خنجراً وبدون أن يفكر هوى به على ظهر وأماكن متفرقة من جسد غريمه.. استطاع بعد ذلك الإفلات من قبضته.. انتحى جانباً وبطرف قميصه مسح العرق المتصبب من جبينه.. انتصب واقفاً ودار على عقبيه خائفاً مذعوراً.. بعد أن سمع أنين غريمه وقبل أن يتعرف على شخصه أو حتى مصيره.. عندما عاد إلى منزله كان الإرهاق قد شل كل حركته.. بصعوبة فتح الباب ودلف إلى المنزل ثم سقط على بطنه أرضاً وبإحدى قدميه ركل الباب ركلة قوية فأغلقه ثم تنفس الصعداء وأغمض عينيه وغط في سباتٍ عميق.. الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً.. كغير عادته تأخر في النوم.. ولكن أين أخاه الأصغر منه.. كيف لم يوقظه هذا الصباح.. إنه شديد المرح دائماً ومفرط في مزاحه.. كيف لم يشد أذنيه ولم يصب الماء على وجهه أو يسحب وسادته من تحت رأسه كما يفعل كل صباح..؟! أوه لكنه لم ينم ليلة البارحة على فراشه ومع ذلك لم يحمله اخوه إلى الفراش ولم يوقظه حتى لا يصاب بالبرد.. ترى أين يكون؟!! فرك عينيه بشدة ونهض من مكانه .. إحساسٌ غريب لامس قلبه.. بحث عن أخيه في أرجاء منزلهما الصغير الذي احتضنهما بعد أن غادرا قريتهما وانتقلا ليعملا في هذه القرية.. لم يتعود أن لا يراه بجانبه صباحاً.. - حدّث نفسه: ربما يكون في الخارج منهمكاً في أحد اختراعاته التي لا تروق لي وأعتبرها دائماً تضييع وقت.. - سأخرج إليه وأخيفه بصوتي أو بحركات يدي كما يفعل هو معي.. وسأحكي له قصتي مع الوحش.. وكيف انتصرت عليه وعدت سالماً... بحث عنه طويلاً في الجوار.. صاح بصوتٍ خائف ليناديه.. لكنه لم يعثر عليه.. قرر أن ينتظره أمام باب المنزل.. فافترش التراب ومد بصره إلى بداية الطريق.. لكنه لم يكن يعرف أنه لن يعود...