في الليل، الظلام الكثيف يلتهم كل شيء، الأشياء الألوان وحتى الملامح. في ازدحم بأشجار السدر، كان الطريق الضيق مكتظاً بالمفاجات، ووسط الغسق لابد من أن ينبثق شيء. شبح في هيئة إنسان ارتدى قميصاً ابيض اللون، أما سرواله فله لون الليل الداكن، بدا كأن نصفه العلوي طائر مع عصف الرياح في الطريق الضيق، عيناه شعلة من نار. بريق مده أماماً، وعزم الا يلتفت يميناً أو يساراً، ظل الغسق جبهته العريضة، وملأ نفسه سكوناً وحذراً، سار ببطء ثم آب راجعاً عندما أحس بصوت جبينه الأفعى لامس أذنيه، شيء له أطراف يكاد يلتصق برقيته، كتفيه وظهره، ندت من صدره آهة رعب وأغمض عينيه، وأدرك أن نهايته قد أضحت وشيكة، امتشق يديه وأدارهما في اتجاهات مختلفة وبحركات سريعة، عندما لصق به ذلك الشيء وجثم على صدره، حاول التخلص منه، لكن دون جدوى. هذا الوحش الرابض فوقه يكاد أن يجهز عليه، لا سبيل للخلاص منه غير القتال، وبإصرار أغمض عينيه بقوة ثم اخرج من جيبه خنجراً وبدون أن يفكر هو به على ظهر وأماكن متفرقة من جسد غريمه، استطاع بعد ذلك الإفلات من قبضته، انتحى جانباً وبطرف قميصه مسح العرق المتصبب من جبينه. ثم انتصب واقفاً ودار على عقبيه خائفاً مذعوراً، بعد أن سمع أنين غريمه وقبل أن يتعرف على شخصيته أو حتى مصيره. عندما عاد إلى منزله كان الإرهاق قد شل كل حركته، بصعوبة فتح الباب ودلف إلى المنزل ثم سقط على بطنه أرضاً وبإحدى قدميه ركل الباب ركلة قوية فأغلقه، ثم تنفس الصعداء وأغمض عينيه وغط في سبات عميق. الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً، غير عادته تأخر في النوم. - ولكن أين أخوه الأصغر منه؟ كيف لم يوقظه هذا الصباح؟ أنه شديد المرح دائماً ومفرط في مزاحه، كيف لم يشد أذنيه ولم يصب الماء على وجهه أو يسحب وسادته من تحت رأسه كما يفعل كل صباح ؟! - أوه لكنه لم ينم ليلة البارحة على فراشه ومع ذلك يحمله أخوه إلى الفراش ولم يوقظه حتى لا يصاب بالبرد .. ترى أين يكون ؟!! فرك عينيه بشدة ونهض من مكانه، إحساس غريب لامس قلبه، بحث عن أخيه في ارجاء منزلهما الصغير الذي أواهما بعد أن غادرا قريتهما وانتقلا ليعملا في هذه القرية. لم يتعود ألا يراه بجانبه صباحاً. حدث نفسه: ربما يكون في الخارج منهمكاً في احد اختراعاته التي لا تروق لي وأعتبرها دائماً تضييع وقت. سأخرج إليه .. وسأحكي له قصتي مع الوحش وكيف انتصرت عليه وعدت سالماً . بحث عنه طويلاً في الجوار، صاح بصوت خائف ليناديه، لكنه لم يعثر عليه، قرر أن ينتظره أمام باب المنزل، فأفترش التراب ومد بصره إلى بداية الطريق، لكنه لم يكن يعرف أنه لن يعود!