الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    شاهد.. أول ظهور للفنان الكويتي عبد الله الرويشد في ألمانيا بعد تماثله للشفاء    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    علي ناصر محمد يفجر مفاجأة مدوية: الحوثيون وافقوا على تسليم السلاح وقطع علاقتهم بإيران وحماية حدود السعودية! (فيديو)    شاهد الصور الأولية من الانفجارات التي هزت مارب.. هجوم بصواريخ باليستية وطيران مسير    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن تحت حكم الامام أحمد 1948_1962 الحلق20
نشر في الجمهورية يوم 20 - 09 - 2008

انتهى عهد الإمام أحمد بموته ، وإن كان الموت لم يوقف تداعيات فترة حكمه البائسة والتي بدأت في الظهور بمجرد غيابه ، وبعد أسبوع سقطت الإمامة الزيدية السياسية في اليمن ، ومع سقوطها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ اليمن المعاصر.
كان غياب الإمامة كطريقة في الحكم ، وشكل من أشكال السلطة حدثاً مهماً بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول سياسي وديني ، فخلال أحد عشر قرناً كان دور الأئمة حاضراً ، صاحب هذا الحضور نفوذ ديني يمتد ليشمل اليمن الطبيعي كله ، أو ينحصر ويتراجع شمالاً حتى جبال صعدة.
ومع كل تراجع كانت هناك فرصة جديدة للتمدد جنوباً ، لأن في الزيدية كمذهب ديني روحاً ثورية متمردة ،ترفض الظلم والاستبداد ، وتدعو إلى الخروج على الحاكم الظالم مهما كانت ادعاءاته السياسية والدينية.
وهذه المسألة كانت دائماً محل اهتمام خاص، فمنتقدو الإمام يقولون إن هذا مجرد تبربر لسياسة الإمام الانعزالية، أما مؤيدوه فيذهبون مذهباً يجافي حقيقة ما حدث وتحقق عند التطبيق، فهم يذهبون في تبرير سياسة «الباب المغلق» إلى القول بأن ظروف المحافظة على الاستقلال، ومقتضيات الحصانة المنيعة ضد الوقوع في أحضان الاستعمار، قد فرضتها، زاعمين أن الإمام لو لم يعمد إليها لوقع فريسة سهلة للاستعماريين، ولكن ذلك تفسيراً غير دقيق، إذ أن سياسة «الباب المغلق» على كل حال لم تحم أجزاء من اليمن اقتطعت منه، وإذا صح ما رواه «الكرملي» في أن الإمام يحيى سلم بعض الجزر المهمة من الناحية العسكرية لإيطاليا في مقابل هدية الأسلحة، فإننا نكون إزاء حالة محزنة حقاً.
ثالثاً: المذهب الزيدي، وليس المقصود بذلك طبيعة المذهب الزيدي من حيث إنه مذهب مغلق، فالزيدية مذهب منفتح، ويعتبر أقرب المذاهب الشيعية إلى السنة، لكنه مع ذلك كان يوحي لمعتنقيه بالتميز والوحدة في نفس الوقت، وقد رأينا كيف أن هذا المذهب كان ولايزال مذهب أهالي المرتفعات الجبلية التي مثلت دائماً حصناً حصيناً يقيهم من عداوة الخلافة الإسلامية السنية، على مدى قرون طويلة.
وللأسف فإننا لا نستطيع القيام بدراسة مقارنة بين تأثير كل من المذهبين الزيدي والإسماعيلي الشيعيين في اليمن، من حيث تأثيرهما في علاقة الإنسان بمحيطه المادي والاجتماعي ومن ثم السياسي، فللاسماعيليين نفس ظروف اخوانهم في المذهب الزيدى: الانتماء إلى أصل واحد، والعيش في ظروف مماثلة، فهل يمكننا أن نتوقع أن للمذهب كما للمكان التأثير ذاته على سلوك الإنسان، إنها مسألة تستحق البحث.
رابعاً: حالة القلق والاضطراب الداخلي، فقد انتقلت اليمن من حرب الاستقلال إلى حرب التوحيد، والتحرر «تحرير الجنوب» وهذه الحالة جعلت الإمام يخشى الوجود الأجنبي مهما كانت صفته، فهو يرى أن مثل هذا الوجود ربما سمح للأجانب بالتدخل في الشئون الداخلية، وقد لاحظ بالتجربة كيف استخدم العثمانيون بعض القبائل الزيدية والشافعية، لتعمل ضد حركته، ثم ضد دولته، وكذلك فعل البريطانيون عندما حرضوا بعض القبائل الشافعية على حكمه.
وأخيراً: طول فترة حكم الإمام يحيى وتقدمه في السن، فلاشك أنه كان يرى أنه قد أصبح من الصعب عليه بعد عام 4391م «عام الهزائم» أن يغير من طبيعته أو يغير من سياساته، لذا أصبح مع مرور السنين أكثر ميلاً إلى الجمود، وبالتالي أكثر بعداً من التجديد مهما قل شأنه.
وقد يتصور البعض خطأ، أن رفض الإمام يحيى للدنيا يعود إلى تعلقه بالآخرة إلا أن هذا التصور لم يكن صحيحاً على الإطلاق، فقد كان الإمام مهتماً بالحياة مشغولاً بمطامعها، وقد قفز في سنوات من بين صفوف الفقراء إلى أن أصبح على قمة الإقطاع التقليدي في البلاد، ولم يعد يمتلك الأرض والقصور والمنتزهات فحسب، وإنما صار يمتلك البشر أيضاً، ويتعامل معهم كقطيع من الأغنام والأبقار، التي يمتلكها في مزارعه، التي ظلت تتسع وتتسع إلى أن كادت تبتلع كل أملاك الآخرين، إلى أن ضاقوا به وبجشعه، وقرروا أن يشاركوا القوى المستنيرة التفكير في الخلاص منه، ووضع حد لأطماعه وجبروته.
6 المعارضة: البداية والمسار
«ا» المعارضة في الداخل
لقد كانت هزائم النظام المتكررة وسياسة العزلة التي فرضها على اليمن سبباً في نقد النظام، وخلقت حالة من الجدل والنقاش الحادين في المجتمع، وخصوصاً لدى النخبة، حيث حمل لواء المعارضة بعد عام 4391م عدد غير قليل من مثقفي العصر، كانوا يتوزعون على طول الساحة اليمنية وعرضها وكان أبرز هؤلاء هو الحاج محمد المحلوي، استخدام المحلوي ورفاقه المساجد، ومقايل «القات» لنقد الأوضاع القائمة ودعوا للاصلاح حتى عقدوا لقاءات واجتماعات عديدة، خصصوا جانباً منها لأمور الدين، فدعوا إلى تعاليم الاسلام الصحيح، والقول بتعاليم الاسلام الصحيح، يقابل القول بتعاليم إسلام غير صحيحة والصحيح في نظر هؤلاء«دعاة الاصلاح» أن الاسلام كرم الانسان، وسعى لإسعاده، وحرم كل سلوك من شأنه ظلمه وإذلاله.. الاسلام يرفض الاستئثار بالمال العام واحكتاره، فالاحتكار في نظرهم مما يفسد الحاكم ويؤذي المحكوم.. الاسلام يرحم الفقراء والمحتاجين، ويرفض خزن الأموال.. الاسلام يدعو إلى المساواة والعدل، وينبذ الفرقة والتعالي بادعاءات دينية أو دنيوية، الاسلام يرفض الشعوذة والغش والدس السياسي المصلحي، والقول بذلك اتهام غير مباشر للإمام وسلطة الإمام وفكر الإمام القائم على أساس من الدين الاسلامي.
كان دعاة الاصلاح الأول في نظر الإمام ومنهم المحلوي ورفاقه زنادقة وكفار يبغضون الإمام وأهل البيت، وقيل عن المحلوي أنه ناصبي وملعون في الدنيا وفي الآخرة.
لكن النقاش استمر، واتسعت دائرته، فلم يصمت المحلوي، ولم يطلب صفحاً من الإمام يحيى، فما كان من الإمام كما هي عادة كل الطغاة إلا أن اعتقله هو ورفاقه، عبدالله محسن العزب، وعلي الشماحي، وأحمد المطاع، وأخوه محمد والفريق صالح السنيدار، وعندما استنكر الناس الاعتقال ادعى الإمام بأن المعتقلين اختصروا القرآن، وأنهم لايصلون ولايصومون، وانهم ينكرون حق الزواج من رابعة.
وانطلت الكذبة على المجتمع أوفرضت عليه، وبقي المحلوي ورفاقه في السحن سبعة عشر شهراً، ولم تجد شفاعة الشافعين ومنهم محمد راغب بك، وحسين عبدالقادر ومرض المحلوي في السجن وعندما أشرف على الموت أمر الإمام باطلاق سراحه لكن المرض كان قد أخذ منه فما لبثت أن مات على الفور.
عرف من دعاة الاصلاح الأوائل عبدالله شنين، وحسين الرخمي والحاج علي كابع، والحاج محمد السنيدار والسيد أحمد المرتضى، وعلي محمد ريحان، والشيخ حسن بن محمد دعيس، والحاج علي توفيق، والقاضي محمد اسماعيل الرومي، والقاضي الشاب عبدالسلام صبرة.. كما عرف منهم أيضاً أبناء السياغي محمد ويحيى وحمود وأحمد عبدالوهاب الوريث، صاحب مجلة الحكمة، وأحمد الحورش، ومحمد بن زيد المفرح واتسعت دائرة المنادين بالاصلاح لتشمل قضاة في المحكمة الاستئنافية العليا.
اضطرالإمام للقيام بمبادرة كان الهدف منها واضحاً وهو امتصاص حالة النقد والتذمر، فأعلن عن تشكيل«المجلس العالي» ومهمته النظر في الشكاوى المقدمة، وبحث الاصلاحات الداخلية، واقرارها، وقد ترأس هذا المجلس ابنه وولي عهده الأمير أحمد، ودخل في عضوتيه عبدالقدوس الوزير، والقاضي عبدالكريم المطهر، والسيد زيد الديلمي وبموجب هذا اقتصر دور الإمام على النظر في الشئون المالية والخارجية، وقوبل القرار بارتياح ولكن هذا المجلس عطل، ولم ينعقد قط، وانتهى أمره كما بدأ.
وفي مدن أخرى كانت هناك بعض التجمعات، الشبيهة بتجمع صنعاء تعمل في اتجاه نقد الأوضاع، وتعمق الوعي بأهمية الاصلاح، وهذه التجمعات كانت قد اعتمدت الدين مرجعية فكرية لمقاومة الفاسد من الأوضاع واصلاح مايمكن اصلاحه يقول«السنيدار» وجاءنا نبأ بأن في مدينتي إب وتعز، وكذلك «ذمار» أناس يجتمعون مثلنا وبدأوا ينتقدون الحكم الحالي في اليمن.
ولم يتوقف النضال بموت المحلوي، كان زميله ورفيقه في النضال أحمد بن أحمد المطاع، قد برز كشخصية مثيرة للجدل، فهو صحفي وأديب وشاعر، نُقل من الجيش، وكان ضابطاً فيه وربما أُبعد عنه إلى جريدة «الايمان» الرسمية وعلى صفحات جريدة الايمان بدأ هو الآخر يكتب بطريقته النقدية عن اليمن وأحوال اليمن، حتى أثار بكتاباته الإمام.
قام المُطاع بجولة في أنحاء مختلفة من اليمن، وفي هذه الجولة التقى بمعارضة النظام، ودرس معهم الأوضاع، واتفق مع بعضهم على ضرورة وجود تشكيل تنظيمي مايحمل رؤية سياسية وله برنامج، فأسماه كما يقول الشماحي«هيئة النضال» التي كان من أهدافها اثارة المشكلات داخل جهاز الدولة، وتعميق الخلافات بين أركانه بمن فيهم الامام وبنيه، وتوعية الجماهير بمساوئ النظام، والاتصال بالصحافة والشخصيات العربية لتحقيق أهداف التنظيم فأثار عليه ذلك الإمام فاعتقله وسجنه كما رأينا.
وقد أثيرت الشكوك حول هيئة النضال وذلك لأن المصدر الوحيد الذي كان قد تحدث عنها كان«الشماحي»، وعنه أخذ بقية المؤرخين من بعده بما فيهم المستشرقون، «كادجار أوبالانس».
أما معاصروه ومنهم السنيدار، وعبدالسلام صبرة وعبدالرحمن الارياني، فليس في كتاباتهم مايؤكد أو ينفي وجود هذه المنظمة، وعندماتناول «البردوني» هذا الموضوع أضاف إلى غموضه غموضاً آخر عندما قال«ولعل» هيئة «النضال» كانت هي الاسم الثاني للحزب الوطني الحجازي، الذي فر أكثر أعضائه عقب استيلاء الملك عبدالعزيز علي الحجاز، وكان عبدالعزيز يطالب بأولئك الفارين حسب اتفاق رد المجرمين بين البلدين اليمني والسعودي، وكان الإمام يخلط بين هؤلاء الحربيين وبين اللاجئين إليه من الأدارسة، الذين كانوا حكام«صبيا» وعندما وقع اليمن والسعودية اتفاقية الطائف كانت هذه الاتفاقية أهم ركائز هيئة النضال، وماتلاها، ولعل أفراد الحزب الوطني الحجازي خسروا القضية بالتصالح بين الإمام والملك، فأحسنوا التخفي في المناطق الوسطى، وفي عدن وفي الصومال، وفي أسمرة، ثم انضموا تحت راية «هيئة النضال»، التي كانت خليطاً من الفقهاء والشيوخ، والتجار المتنورين بصنعاء وإب، وكما نرى فإن ذلك كان مجرد احتمال أوافتراض من البردوني، يصح أولايصح، وكما يبدو فإنه أبعد من افتراض قيام هذه المنظمة على يد أحمد المطاع نفسه.
إلا أنه أياً تكن الآراء حول المنظمة «هيئة النضال» فإن شخصية المطاع لم تكن محل خلاف، كمناضل، وقائد وشاعر وأديب وصحفي، فرض نفسه كواحد من أبرز قادة المعارضة الذين أقضوا مضجع الإمام وفتحوا ثغرات في جدار الظلمة التي عاشتها اليمن، تسربت منها أضواء التغيير والثورة فيما بعد.
في هذه الأجواء عاد محمد محمود الزبيري من القاهرة، حاملاً أفكاره في الاصلاح محاولاً أن يجد لها مكانة في نفس الإمام، وبين الناس عاد ليلتقي بالمطاع ورفاقه وصاغوا للاصلاح الاداري والاجتماعي نظاماً، كتبه الزبيري، وقدمه للإمام، في الوقت الذي كان فيه محمد أبوطالب يلقي خطبه في الاصلاح جهاراً ونهاراً وعلى مسمع من الإمام بعد كل صلاة جمعة حتى ضاق به الإمام ونفر منه، لكن الأمر لم يتوقف على أبوطالب، إذ رأى الزبيري، بما رأى أنه واجب الضمير والموقف أن يخطب هو الآخر مؤيداً أباطالب، فأمر الإمام باعتقالهما معاً، في عام 0631ه «1491م» في وقت كانت هناك نجوم أخرى تلمع في دنيا معارضة الإمام، فقد لمع اسم أحمد بن محمد الشامي في مجال الأدب والشعر، وتألق نجم السيد أحمد عبدالوهاب الوريث في «ذمار» وخرج الأستاذ أحمد محمد نعمان من كهف الصوفية والروحانية إلى واقع الحياة السياسية وبدت شخصية القاضي عبدالرحمن الارياني بملامحها القيادية تبرز.
كان برنامج الزبيري بأية مقاييس نظرية معتدلاً، ذاخلفية دينية، فيه نص صريح بعدم الخوض في السياسة باعتبارها من الأمور التي«سلمها الله إلى يد الإمام» ومع ذلك فقد لقي البرنامج رفضاً قاطعاً من الإمام لقد قرأ الإمام بقية مواد البرنامج فوجد أن فيها مايتعارض وسياساته ونزعاته الشخصية، إذ يدعو البرنامج إلى تغيير النظرة عند الناس تجاه أمور كثيرة في الحياة، مؤكداً على التضامن، وداعياً إلى المساواة والعمل من أجلها، والتفاهم بين طبقات الشعب فاعتبر الإمام ذلك تحريضاً على نظامه وخروجاً على مسلماته، خصوصاً وقد ورد في البرنامج مايشير إلى رفض المعاهدات التي وقعها مع الايطاليين والروس، كما لم ينخدع بعبارات المديح التي وصفه البرنامج بهاكحاكم عادل وعظيم، مستمداً سعادته من سعادة شعبه فكان الرفض للبرنامج وكان السجن لأصحابه حتى انتهى أمره.
وبقي الزبيري وأبوطالب في السجن قرابة العام وفي السجن عانى الاثنان كما عانى غيرهم من قبلهماومن بعدهما وعقب الزبيري على هذه المرحلة من حياته في مقدمة ديوانه «ثورة الشعر» فقال: لقد كانت التجربة الأولى هي تجربة الرعيل الأول في زماننا.. كانت تجربتهم التبشيرية بأفكار عصرية قد أدخلتهم السجون، وأثارت عليهم نقمة الشعب.. وتدارسنا هذه التجربة فأدركنا أنه لايتم عمل ولاتقدم، ولاتنجح دعوة إلا عن طريق الدين، الذي يستمد منه الحكام سلطتهم.. ورغم هذا التكتيك وجدنا أنفسنا في السجن، ووجدنا الشعب يتخلى عنا، ورأينا أن انصياعه للحاكم أبعد مما تصورناه، ورأينا أن التاريخ سيحكم علينا بالتهور والتسرع إن لم نكرر التجارب بطرق أكثر ليناً، فالعالم الانساني يجب أن يراعي حتى بالنسبة إلى حكام يسيطرون على مقدرات الشعب بدون حق، وقد نجح الشعر في اقناعهم هنا بأننا لسنا أعداء، فأطلقوا سراح البعض بعد تسعة أشهر، ولكنهم ظنوا أننا سنرضى عنهم ونتعايش معهم بمجرد أن يغدقوا علينا من أموال الدولة ومناصبها.
وبالتجربة تأكد للزبيري وصحبه فيما بعد أنه لاالشعر المداهن، ولا الشعر المادح، قد غير من الأئمة في شيء كان الإمام يحيى متحجراً ومتغطرساً وفاسداً، فجاء ابنه يحمل كل صفاته، ويفوقه عنفاً وبطشاً وسفكاً للدماء لتتجذر تجربة الزبيري السياسية والشعرية كما تجذرت اطروحات المعارضة الفكرية والسياسية.
لكن سجن الزبيري وأبي طالب لم يكن نهاية المطاف في علاقة الإمام المتوترة بالمعارضة ففي العاشر من شهر ذي الحجة 1631ه «1491م» وزعت على نطاق واسع منشورات فيها انتقادات مريرة وشديدة اللهجة لتصرفات الإمام يحيى وحكومته، وفي اليوم التالي ألقي القبض على القاضي محمد الخالدي بتهمة كتابة المنشورات وتوزيعها وزج به في السجن وبعد ذلك سرت موجة اعتقالات، فحشروا إلى سجن«غمدان» و«الرادع» كلاً من محيي الدين العنسي وأحمد الحورش وأحمد المروني وعبدالله السلال، وأحمد محبوب، وأحمد المطاع، وساد الرعب وزاد التبرم وبدا جو صنعاء مكفهراً.
ونترك الزبيري وصحبه في السجون لنلقي نظرة على تجربة أخرى رائدة في مجال الدعوة للاصلاح التي هي بالضرورة دعوة للمعارضة ودعوة للتغيير، هذه التجربة هي تجربة«مجلة الحكمة».
ظهرت مجلة الحكمة في وقت كانت الساحة اليمنية في حاجة إلى هذا النوع من العمل الابداعي التنويري وجاءت معبرة عن عصرها وثقافة وظروف ذلك العصر، كان الإمام قد نقل أحمد عبدالوهاب الوريث من«ذمار» إلى صنعاء، ويبدو أن انتقال الوريث إلى صنعاء لم يكن نقلاً لموظف عادي إلى العاصمة، فمن المعروف والشائع أن الوريث ما وصل صنعاء إلا بعد أن وصلتها شهرته، وشغلت المقامات العليا دعوته في«ذمار» للاصلاح العلمي، والتغيير الفكري والاجتهاد وقد أقلق ذلك الإمام دون شك فاستدعاه لجانبه يراقبه ويستفيد من قدراته العلمية، وثقافته الواسعة، فعينه عضواً في لجنة التأليف وكلفه بالتعاون مع الأمير عبدالله للاشراف على المعارف، ثم عينه رئيساً لتحرير مجلة «الحكمة اليمانية».
وكان المطاع وزملاؤه قد خرجوا من السجن وفيما عين بعضهم قضاة في الأقضية، عين هو في وزارة المعارف والتقى الاثنان الوريث والمطاع وتبادلا الأفكار فيما يتطلب الموقف من اصلاح، وانتهيا إلى أن خير طريق هو التوعية الهادئة الهادفة، واتفقا على اصدار مجلة علمية أدبية تاريخية، وقد اقنعا الأمير عبدالله بالفكرة، وتحمس هو لها، ثم أقنع والده، وأخذ موافقته، وبعد تردد صدر العدد الأول منها في يناير9391م واستمرت في الصدور حتى مارس1491م.
ومنذ بدايتها الأولى كانت مجلة الحكمة مجلة اصلاحية تدل على ذلك مقالات رئيس تحريرها وكبار كتابها أمثال المطاع وعبدالله العزب، وأحمد الحورش، وأحمد البراق، وزيد الموشكي، ومحيي الدين العنسي، ومحمد صالح المسمري، وهذه النخبة جميعها دون استثناء كانوا رموزاً للدعوة الاصلاحية قدموا من خلالها أفكارها إلى القراء في قالب جديد ومؤثر دون أن يعمدوا إلى اثارة الإمام كما كان يفعل قبل ذلك المطاع وزملاؤه في صحيفة الايمان.
ولكن هذا النجم المضيء في عتمة الليل الموحشة توقف عن الصدور في مارس 1491م ويبدو أن توقف المجلة كان له أسبابه المتعددة، فمن ناحية كان الإمام يكره مظاهر الحياة الجديدة، وكانت الصحيفة رمزاً لهذه المظاهر، بل وفي نظره رمزاً فاقعاً وهو المعروف بصفاته الانعزالية وجموده في الحياة والعمل، وقد أضفى هذا الجمود وأسبغه على النظام الذي أقامه في اليمن ومن ناحية أخرى رأى في مجلة الحكمة ولو بشكل ضئيل وخفي صورة من صور المعارضة التي كان قد بدأ يلمسها في نواحٍ أخرى ثم إن الحكمة ظهرت رغم كل ما اتخذته من حيطة وحذر شديدين وهي تحمل مضموناً جديداً وعصرياً، وأنها ترمي إلى أهداف اصلاحية متطورة، لم تخفها حلتها الاسلامية التي تلفحت بها في كل عدد من أعدادها.
أما السبب المباشر الظاهر فقد كان النقص الشديد في الورق في ظروف الحرب العالمية الثانية، وهو كما قلنا ظاهر، لأن الحرب انتهت وأصبح بالامكان صدور المجلة من جديد كما صدرت مثيلتها«الايمان» لكن الإمام لم يسمح لها بالعودة إلى الحياة وهو مايرجح الرأي الأول.
وبعيداً عن العاصمة في منطقة«ذبحان» التابعة للواء تعز برز نشاط المستنيرين منفصلاً عن تجمع صنعاء مثله أحمد محمد نعمان، ومحمد أحمد حيدره، اللذان حاولا بدورهما أن يبشرا بأفكار عصرية عن طريق النشاط الأدبي، وقد جوبه نشاطهما بتهم دينية مشابهة واستدعي النعمان للاقامة في تعز في هذا الوقت كان الزبيري يقبع خلف القضبان في سجن«الأهنوم»، فوجد زميله ورفيق نضاله الطويل أحمد محمد نعمان أن هناك امكانية لاطلاق سراحه، لو أن الزبيري طلب شفاعة ولي العهد أحمد لدى والده، والايضاح له عن الرغبة في الالتفاف حوله، والمقام لديه، وكتب إلى الزبيري بذلك، فأعمل الزبيري موهبته الشعرية واعتصرها في قصائد رفيعة المستوى فنياً تزلفاً للإمام يحيى، وتودداً لابنه أحمد وكان للزبيري تقييمه لهذه القصائد إذا اعتبرها صورة رمزية لبشاعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، الذين أوقعتهم الأقدار تحت رحمته، فاضطرهم بقسوته واستبداده ومنطقه المتأله، إلى أن يمدحوه ذلك المدح الذي يتحول بطبيعته إلى لون رمزي من ألوان الهجاء وكأنه بذلك كان يرد على منتقديه الذين حاولوا الاساءة إليه مستغلين قصائد المدح للإمام وولي عهده.
وفي تعز وإب أخذت عناصر مستنيرة تتجمع إلى بعضها البعض بصورة مشابهة، وقد كانت معزولة عن بعضها البعض وحقيقة وجود هذه المجتمعات أكدها«الارياني» فيما بعد كما أكد صلتها بتجمع العاصمة بصورة أو بأخرى إذ قال: «كان العمل الوطني في البداية مقصوراً على نقد الأوضاع بما عليها من مآخذ وماأكثرها.. وكانت الاتصالات بمن عندهم شيء من الوعي محدودة، وفيهم المحلوي والمطاع والسنيدار والعزب وأولاد السياغي والشماحي والخالدي وكانت صلتي في البداية بالشهيد المطاع الذي كان يحضر درس تفسير«الزمخشري» لدن الوالد رحمه الله في جامع الفليحي، وكنت أنا والأخ الأستاذ أحمد المعلم ونحرر المنشورات نظماً وشعراً، ونوزعها في المساجد، وعلى أبواب المسئولين إذ هو لايؤكد الصلة مع مجموعة صنعاء فحسب بل كأنه يريد أن يقول إنهم يقومون معهم بالتنسيق في حملتهم على الإمام والإمامة.
«ب» المعارضة في الخارج:
تأكد الأحرار بأن محاولاتهم لاصلاح الأوضاع في اليمن مع الإمام يحيى قد ذهبت سدى وأصبح لديهم اليقين أن لا أمل في تطوير وتغيير الأوضاع في ظل حكمه وبقيت لديهم محاولة أخيرة، ليست معه بل مع ابنه وولي العهد الذي أصبح رمزاً وطنياً بعد عام 4391م، فهو البطل الاسطوري التي تنتظره «الأمة» كلها، ومن ثم كانت الأنظار تتجه إلى بطولته كلما تذكر الناس الجنوب اليمني المحتل، وحاجتهم إلى بطل يحرره من الاحتلال البريطاني كان رمز الأمل ومناط الرجاء في القضاء على أسباب الفساد المعروف في حاشية الإمام يحيى، وكان رجال هذه الحاشية يرتعدون من المستقبل كلما تذكروا أحمد، هذا عدا تعلق الفئات الواعية به، واعتقادها بأنه رجل المستقبل ورجل الاصلاح والتحرير.
في مطلع الاربعينات انتقل رموز المعارضة تباعاً إلى بلاط ولي العهد في تعز الذي رحب بهم وأظهر لهم برمزية شديدة أنه غير راض عن رجعية أبيه، وفساد حكمه، وفي بلاطه التقى عدد غير قليل من دعاة الاصلاح ومثقفي العهد كان منهم أحمد محمد النعمان ومحمد محمود الزبيري وزيد الموشكي وأحمد محمد الشامي وآخرون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.