زقزقت عصافير سقسات ملونة، فانبعث الفجر متلألئاً من خلال النوافذ الخشبية العتيقة، ومسامات التراب المتحجر المعبق بالبخور، والأزقة المستلقية عند أقدام المنازل، وظلت منارة مسجد المحضار وحدها ترسل خيوط الضوء الناعمة.. دفقات متتابعة كالوهج الإلهي.. وخلال بضعة دقائق فرائحية تبدت تريم غارقة في ألقها وكذلك العالم من حولها وهكذا حال مدينة روحية تصدر النور مجاناً. المدن الجميلة كائنات حية تتخلد إذا ما أهتم بها الإنسان أكثر من نفسه، وتعهدتها الأجيال المتتابعة بالرعاية والاهتمام، ومدينة مثل تريم لابد أن يكون الاهتمام بها أكثر من اللازم.. كونها منبع الفجر، وترنيمة الروح وسقسقات الوجد، وقبلة العلم، ومصدرة الدعاة إلى العالم وبالذات دول شرق آسيا وإندونيسيا، كما أنها موطن النقوش القديمة والمخطوطات النادرة، والقصور الفريدة، والمنازل الناطحة للسحاب وموقعها إلى الشمال الشرقي من مدينة شبام حضرموت جعلها تتربع عرش الأمكنة الرائعة التي يعود نشأتها إلى حوالي«24» قرناً حينما شرع في بنائها في عهد مملكة حضرموت الملك تريم الذي تزعم عرشها، وظلت المدينة صامدة في وجه الجغرافيا والتغييرات الجوية والبشرية، كما ظلت شهرتها تعتلي الألسنة على أمتداد الأيام والليالي المتعاقبة، والتاريخ الطويل حتى اللحظة التي تم تتويجها عن جدارة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الحالي 2010م. إنتصار الطين أبهة المدينة لاتقف عند حد خصوصاً وأن هناك أنامل ماهرة تقوم بترميمها قبل أن ينبلج فجر السابع من مارس الحالي الذي ستدشن من خلاله فعاليات تريم عاصمة للثقافية الإسلامية، لكن الأعين الثاقبة لاترى سوى التاريخ.. تاريخ التراب الأسطوري المتمخض مبانٍ عملاقة، ونقوش أكثر منه مدهشة، والذي تحكي كل ذرة من ذراته قصة تأسيس المدينة، ولفها بسورٍ شاهق طويل يصد عنها غائلة الطامعين، وثلاث بوابات حصينة أكلها التوسع والإهمال وأكل السور أيضاً في قضمات حادة لم يتبق منها سوى الأطلال.. لكن الصمود أقوى من الاندثار والانتصار على الاسمنت أكثر من الهزيمة، على اعتبار أن الإنسان هناك بالذات خلق من تراب وليس من حديد أو إسمنت، ولهذا كانت اللوحات الهندسية المنقوشة على الدرابزين وواجهات البيوت، وعيون النوافذ، وصدور الأبواب، وقنن الناطحات للسماء، ودور العلم والدواوين والغرف تتجدد كلما نام ليل واستيقظ صباح.. وقد تولد إلى جانبها ومن خلالها نقوش أخرى ساحرة. بياض وصفاء تحت الكوافي البيضاء وجوه بيضاء من غير سوء تتقد ملامحها بمشاعل الإيمان، كذلك الأثواب بين ضلوعها قلوباً طيبة صافية تشع بحب الله وحبها للناس، كذلك حبها بعضها بعضاً، ومن خلال تلك الملامح والقلوب والألسنة الخضراء بذكر الله أو المتصوفة الحقة شيدت مساجد، وبنيت أربطة علم، وأقيمت كليات شرعية، وانتشرت مجالس الذكر، واتسعت الحلقات العلمية، ولما كان لهذه المدينة شهرتها في نشر رسالة الإسلام في شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه أثناء ممارسة التجارة في تلك البلدان والتي انعكس تعاملهم الحسن على حب الناس لهم ومن ثم دخولهم في دينهم، فقد هب الكثير من مسلمي تلك الأقطار إلى تريم ملتحقين بأربطتها المنتشرة في ربوع المدينة، وكذلك دار المصطفى وكلية العلوم الشرعية وجامعة الأحقاف يقول أحد الوافدين للدراسة في هذه المدينة العلمية أنه وجد سعادته وفرحه وطمأنينته في دور العلم والعبادة، ويضيف أن مدينة تريم راوية العطش ومداوية المكتئبين، ومسعدة الحزانى البائسين، كما أنها كنز نادر للمؤرخين. شموخ الطين والنخيل ترشف خطواتي تيهها في حواري وأزقة تريم بلذة في دروب بساتينية تاريخية تتمدد أحياناً مثل بساط مزركش، وتعلو أحياناً على قممٍ أعلى من التكبر وحده البصر يحاول أن يتسلقها ويقف هنيهات مرفرفاً على شموخها، حيث المساجد ودور العلم أكثر من المنازل، وعلماء تركوا بصماتهم الفقهية والدينية في كل موضع كالحداد والشاطري والجنيد والكاف والعيدروس وغيرهم، ويبقى جامع المحضار لوحة إسلامية فريدة بمنارته الشاهقة المربوعة التي يصل طولها إلى حوالي«27» قدماً.. شموخ في المبنى والمعنى أيضاً يتجاوز عمره «187» عاماً وهندسة نادرة تكونت أو ولدت من النخيل والطين، وزخرفات تتجاوز القدرة الآدمية، ربما بنيت بيد الملائكة لابيد البشر، ويشرب البصر ملامح المسجد بلا ارتواء، ثم ينتقل إلى الجامع الكبير والقديم الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع الهجري، حيث درس في أفيائه العديد من الطلاب على مر القرون، وتخرج من صرحه الكثير من العلماء الذين سطعت نجومهم حتى يومنا هذا وتتزاحم المساجد في لحظات عبودية قل أن تجدها في المدن الإسلامية الكبرى. تريم منتظرة ارتداء تاج الثقافة الإسلامية في السابع من مارس الحالي بحضور كوكبة من مسئولي العمل الثقافي في البلاد الإسلامية وعلى رأسهم الأستاذ عبدالعزيز عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم “الأيسيسكو” ومع هذا التتويج الرائد سيبدأ عصر جديد من الأفراح يغمر هذه المدينة الواجهة للمدن الإسلامية.. رقصات شعبية متنوعة وأسابيع ثقافية متنوعة لكل محافظات الجمهورية، ومعارض مختلفة للفنون التشكيلية والفلكلورية والفوتوغرافية، ومحاضرات وندوات ومؤتمرات ومهرجانات، وأسابيع ثقافية إسلامية للعديد من الدول التي ترتبط بهذه المدينة منذ الأزل كماليزيا وتركيا وإندونيسيا، ولايقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل أن هناك تكريمات ستقع لمن خدموا الثقافة والإبداع في شتى المجالات، وملتقى دمون للشعراء الشباب، ومهرجانات للشعر الشعبي والإنشاد الديني والموشحات بالإضافة إلى مؤتمر السرد للجزيرة العربية ومؤتمر الأدباء والكتاب اليمنيين، والاحتفال باليوم العالمي للكتاب، وفعاليات أخرى كثيرة سوف تجعل من مدينة تريم ذات رواج سياحي يضيف إلى شهرتها العظيمة شهرة عملاقة لاتنمحي من ذاكرة الأجيال. انتظار الحظ على شفى الوداع استوقفتني مكتبة الأحقاف ذات المخطوطات النادرة في مختلف الفنون العلمية والمعرفية، وزحام طلابي ينقب في أحشائها عما يشبع نهم أبحاثهم، وأطلقت زفرة ملتهبة وأنا أسائل نفسي: هل يتسنى حضوري بعض فعاليات هذه العاصمة الإسلامية للثقافة؟ ربما.. لأن التمني المستمر قد يتحقق.