منبع الفجر المدن الجملية كائنات حية تتخلد إذا ما اهتم بها الإنسان أكثر من نفسه، وتعهدتها الأجيال المتتابعة بالرعاية والاهتمام، ومدينة مثل تريم لابد أن يكون الاهتمام بها أكثر من اللازم.. كونها منبع الفجر، وترنيمة الروح وسقسقات الوجد، وقبلة العلم، ومصدرة الدعاة إلى العالم وبالذات دول شرق آسيا واندونيسيا، كما أنها موطن النقوش القديمة والمخطوطات النادرة ،والقصور الفريدة، والمنازل الناطحة للسحاب وموقعها إلى الشمال الشرقي من مدينة شبام حضرموت جعلها تتربع عرش الأمكنة الرائعة التي يعود نشأتها إلى حوالي “24” قرناً حينما شرع في بنائها في عهد مملكة حضرموت الملك تريم الذي تزعم عرشها، وظلت المدينة صامدة في وجه الجغرافيا والتغييرات الجوية والبشرية، كما ظلت شهرتها تعتلي الألسنة على امتداد الأيام والليالي المتعاقبة، والتاريخ الطويل حتى اللحظة التي تم تتويجها عن جدارة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الحالي 2010م. رائحة الطين أبهة المدينة لاتقف عند حد خصوصاً وأن هناك أنأمل ماهرة قامت بترميمها فكانت بحق عاصمة للثقافية الإسلامية، لكن الأعين الثاقبة لاترى سوى التاريخ.. تاريخ التراب الأسطوري المتمخض.. مبانٍ عملاقة، ونقوش أكثر من مدهشة، وتحكي كل ذرة من ذراته قصة تأسيس المدينة، ولفها بسور شاهق طويل يصد عنها غائلة الطامعين، وثلاث بوابات حصينة أكلها التوسع والإهمال وأكل السور أيضاً في قضمات حادة لم يتبق منها سوى الأطلال.. لكن الصمود أقوى من الاندثار والانتصار على الاسمنت أكثر من الهزيمة،على اعتبار أن الإنسان هناك بالذات خلق من تراب وليس من حديد أو اسمنت، ولهذا كانت اللوحات الهندسية المنقوشة على الدرابزين وواجهات البيوت، والغرف تتجدد كلما نام ليل واستيقظ صباح .. وقد تولد إلى جانبها ومن خلالها نقوش أخرى ساحرة. وهج إيماني تحت الكوافي البيضاء وجوه بيضاء من غير سوء تتقد ملامحها بمشاعل الإيمان، كذلك الأثواب بين ضلوعها قلوب طيبة صافية تشع بحب الله وحبها للناس، كذلك حبها بعضها بعضاً، ومن خلال تلك الملامح والقلوب والألسنة الخضراء بذكر الله أو المتصوفة الحقة شيدت مساجد، وبنيت أربطة علم، وأقيمت كليات شرعية، وانتشرت مجالس الذكر، واتسعت الحلقات العلمية، ولما كان لهذه المدينة شهرتها في نشر رسالة الإسلام في شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه أثناء ممارسة التجارة في تلك البلدان وانعكاس تعاملهم الحسن على حب الناس لهم ومن ثم دخولهم في دينهم، فقد هب الكثير من مسلمي تلك الأقطار إلى تريم ملتحقين بأربطتها المنتشرة في ربوع المدينة، وكذلك دار المصطفى وكلية العلوم الشرعية وجامعة الأحقاف يقول أحد الوافدين للدراسة في هذه المدينة العلمية إنه وجد سعادته وفرحه وطمأنينته في دور العلم والعبادة. ويضيف: إن مدينة تريم راوية العطش ومداوية المكتئبين، ومسعدة الحزانى البائسين، كما أنها كنز نادر للمؤرخين. دروب بساتينية ترشف خطواتي تيهها في حواري وأزقة تريم بلذة في دروب بساتينية تاريخية تتمدد أحياناً مثل بساط مزركش، وتعلو أحياناً على قمم أعلى من التكبر.. وحده البصر يحاول أن يتسلقها ويقف هنيهات مرفرفاً على شموخها، حيث المساجد ودور العلم أكثر من المنازل، وعلماء تركوا بصماتهم الفقهية والدينية في كل موضع كالحداد والشاطري والجنيد والكاف والعيدروس وغيرهم. ويبقى جامع المحضار لوحة إسلامية فريدة بمنارته الشاهقة المربوعة التي يصل طولها إلى حوالي “27” قدماً.. شموخ في المبنى والمعنى أيضاً يتجاوز عمره “187” عاماً وهندسة نادرة تكونت أو ولدت من النخيل والطين، وزخرفات تتجاوز القدرة الآدمية، ربما بنيت بيد الملائكة لا بيد البشر، ويشرب البصر ملامح المسجد بلا ارتواء، ثم ينتقل إلى الجامع الكبير والقديم الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع الهجري، حيث درس في أفيائه العديد من الطلاب على مر القرون، وتخرج من صرحه الكثير من العلماء الذين سطعت نجومهم حتى يومنا هذا وتتزاحم المساجد في لحظات عبودية قل أن تجدها في المدن الإسلامية الكبرى.. وداع المدينة على شفى الوداع استوقفتني مكتبة الأحقاف ذات المخطوطات النادرة في مختلف الفنون العلمية والمعرفية، وزحام طلابي ينقب في أحشائها عما يشبع نهم أبحاثهم.