- ما هذا يا آنسة؟ أتسمين هذا تقريراً شهريًا مفصلاً؟ - ما العيب به يا أستاذ؟ - العيب فيكِ أنتِ .. لا تستوعبين بسرعة ! نظرت له بضيق وغضب تصاعد إلى حنجرتها وبدا جلياً على ملامحها الرقيقة وبدأت تفكر بعنف” يا له من مغرور أحمق.. أعمته الثروة!”..ظلت تنظر إليه بعنف وهو ينتقدها وينتقد كل صغيرة وكبيرة في تقريرها ..خرجت من مكتبه موشكة على الانفجار ..وقد غشت الدموع عينيها ،دخلت إلى قسمها مسرعةً إلى كرسيها وانهارت فيه بعنف ،ابتسم زميلها احمد وقال: - كالعادة ..إحباط آخر ؟! اندفعت الكلمات في فمها لتخرج مندفعة حارقة:انه مغفل ..يقول بأن تقريري سيئ جداً ..الم تطلع عليه أنت يا احمد؟؟ - بلى بلى ، كان رائعاً ولكن في هذه الشركة وهذا المدير بالتحديد يجب أن تتعودي على معنى الرفض والذل! أردفت باشمئزاز : - ذل ؟؟ وهل أنت راضٍ بهذا؟ ابتسم وقال: طبعاً لا ..ولكنني لا استطيع ترك العمل هنا فهو في مجال تخصصي وهي المهنة التي صبوت إليها دائماً ! - وأنا أيضاً لكني لست بقادرة على تحمل طباع المدير المزهو بنفسه هذا! - أعمته النقود ! - سأترك هذه الوظيفة ... اتخذت قراراً فورياً - تعلمين بأنكِ لا تستطيعين .. حاول احمد إعادتها لرشدها - لا استطيع .. لن أتحمل هذه المهزلة ..كلما فعلتُ شيئاً خارقاً بنظر الجميع يستصغره هو ويقول بصوته القبيح: “ هل هذا ما تعلمته بالجامعة ؟” ابتسمت شبه ابتسامة وقالت بدفء: كفى ! حينما ضحك احمد بعنف لحركتها المضحكة في تقليد صوت المدير المرعب ..امتثل احمد لكلامها ثم تابع حديثه : استقالتك من هذه الوظيفة ستسبب لك المتاعب خصوصاً مع ظروفك التي شرحتيها لي يا أختي العزيزة ! نعم .. سرّت لنفسها ..فعلاً هو محق فمن أين لها بدواء باهظ الثمن لعلاج والدتها المريضة والمقعدة في فراشها منذ سنوات .. ومن أين لها بمصاريف أخوتها الستة لا سيما أن أخوها الوحيد لا يشعر بأدنى إحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه بل يكتفي بالنوم واللهو والأكل ..ناهيك عن المصاريف الأخرى والفواتير المكدّسة في غرفتها تنتظر دورها للسداد ..إضافة إلى التقشف الشديد الذي يعيشونه منذ سنوات بعد وفاة والدها . انتشلها صوت احمد من عذاباتها البائسة : - حينما تكونين الكبرى، المسؤولة الوحيدة لا يمكنك التخلي عن وظيفتك بهذه السهولة . - اعلم ذلك جيداً ولكنني اعجز عن التأقلم .. لا أرضى لنفسي أن يستهزأ بي ذلك المدير المتعجرف ! - لا تحذي حذوه الآن ! - في ماذا ؟ سألته بغباء. - نفس الألفاظ ..متعجرف متكبر مغرور معتوه ..تقلدينه في الكلام ! - آسفة .. من شدة غيظي لا استطيع التفكير - هوّني عليك يا سلوى .. وابتسمي للحياة تبتسم لك !! - كان هذا شعاري في سن المراهقة ولكن الحياة لم تبتسم لي يوماً أبداً أبداً. عادت إلى دارها الصغير الضيق ..دلفت إلى داخلها محاولة ألا تدوس أياً من أشقائها الصبيان الذين يفترشون الأرض ، نائمين ووجوههم معدومة الملامح .. أسرعت إلى غرفتها الصغيرة التي لا تشبه الغرف الحقيقية ، وكعادتها دائماً انهارت باكية على فراشها البالي وأقسمت للمرة الألف أن لا تذهب إلى العمل في اليوم التالي ... ولكن في صباح اليوم التالي كالعادة نهضت مبكّرة ، استعدّت وذهبت إلى عملها على مضض والدموع المتحجرة في عينيها تحرقها !! ليس بيدها شيء ، هي والبؤساء أمثالها ، سوى الصمت الذليل و البكاء الليلي على المخدة المتسخة .. والتقلب وحرقة الآلام تقض مضجعها !!!