مر قرابة الأسبوع منذ بداية الشهر ولم أستلم راتبي إلا أمس. قبل سنوات قليلة كنت أشعر بالرضي،الاطمئنان والسرور في يوم كهذا. لكن يبدو أن الرضي والسرور قد أصبحت مشاعر تعذر علينا، نحن الرجال،أن نشعر بها مرة أخرى.الأحداث والأمر الواقع والوقت جميعهم مروا علينا وصبغونا باللون الأسود الكئيب بتلك الريشة الحبر القاتمة. أيام استلام الراتب أصبحت اليوم لا فرق بينها وبين بقية أيام الشهر فبداية الشهر مثل أوسطه وأوسط الشهر يشبه آخره وهكذا.. بل أنني لا اذكر متى آخر مرة شعرت فيها بالسعادة وأنا أستلم مرتبي. الحياة ،الوقت والضغوطات يجبروننا أن نشعر بالاكتئاب ولا نختاره نحن. في جميع الأوقات وأي وقت المال الذي بحوزتي ليس كافٍ لكل شيء، بل هو غير كاف" لبعض" الأشياء أو اهمها، وهو غير كاف لتجنيبنا مشقة الاستدانة. في جميع الأوقات أنا لم أسدد كل ديوني، بل زدت في عددها! أنا دائماً أتمنى وأطمح ،لكني نادراً ما أنال ما أتمناه! لماذا؟؟ طالما سألت نفسي، هل أنا فاشل؟ رضيت بجواب،"إنما هكذاُ تنقضي الحياة، فمن ذا الذي ينال ما يتمني؟ أشيروا إلي" واحد "، أريد أن ألقاه!! أن المسئوليات والالتزامات تتكوم فوق ظهري الواحدة تلو الأخرى حتى يكاد ظهري ينحني وأنا مازلت شاباً في مقتبل العمر. لا شيء، ولا فعل، ولا حركة تحدث أو تنشط لإيفاء تلك الالتزامات. اعمال متعددة راتبي الآن يبلغ خمسة وثلاثون ألف ريال، لا يهم أن يكون قليلاً أو كثيراً المهم انه أفضل من رواتب الكثير ممن لم يتضوروا جوعا ولا افتضحوا داخل أسرهم أو مجتمعاتهم، لذا لا بد أن يكفيني راتبي أنا الآخر!!! هناك أسر تعيش على 20،000ريال يمني بل وهناك من يعيش على 15،000ريال فانا ولله الحمد أفضل من هؤلاء المساكين، كلنا مساكين ولكنهم أكثر مسكنة مني. كذلك أنا كثير الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى على ما يمنحني من فرص لإدخال أموال أخرى إلى جانب راتبي مثل بيع سيارة لشخص، استئجار منزل لشخص، إيجاد سائق لشخص، توفير خادمة لشخص،إخبار شخص عن ارض والذهاب معه ليطوف ويعاينها...وكله من اجل" الشخص" وتتحسن ظروفي قليلاً بالمال الذي أحصل عليه نظير سعايتي، لا بأس لست ناقم فالله يريد هذا وأنا قانع بما كتب لي الله، فهناك في الدنيا شخص وهو فاعل ما شاء الله عليه وهناك شخص مثلي، أيضاً، أنا شخص لكن مفعول به ولا حول ولا قوة إلا بالله!!! غير أني أعاني الآن حقيقة كونني ما عدت قادراً على الاستمرار. أنا اسكن في شقة قديمة، صغيرة جداً وغرفها ضيقة وادفع إيجارها 15،000 ريال. أدفع 10،000وأؤجل الخمسة المتبقية إلى يوم آخر فيه يسر "مالي" وهو كما يبدو يوم لن يأت أبداً. هذا التأجيل حدث بعد أن أخذنا صحن كيك وصحن كعك إلى منزل مالك العمارة فأعجبهم الكيك والكعك الذي تعمله زوجتي وباتوا شهرياً يحضروا إلى البيت مع سائقهم الدقيق والسكر والبيض ويطلبوا عدد من الكيك وكذا كيلو من الكعك عندما يكون لديهم ضيوف أو مناسبة ما. منذ بدأ هذا يحدث، توقفوا عن طلب الخمسة ألف المتبقية. هذا طبعاً إلى جانب أن زوجتي تعمل لنا صحن كيك خاص بنا وكيلو كعك لنا أيضاً من ذات الدقيق والسكر والبيض الذي تحضره زوجة مالك العمارة. آي أننا ألغينا الخمسة ألف وأكلنا أيضاً وفي هذا فائدة كبيرة نحمد الله عليها باستمرار. اليوم استعرت أنا سيارة جاري الأجرة ،كعادتي أول كل شهر. أنا أعطية ألف ريال و يبقى هو في البيت حتى الظهر ليتمتع بأولاده و يلعب معهم و يغازل زوجته و يسترخي أمام التلفاز وهي أشياء ما عاد المسكين يمارسها بسبب ضغوطات الحياة التي لم تعد تترك له ولغيره سوى الشجار والمشاحنات للملاحقة واللهث وراء مطالب الحياة، بينما أسرع أنا بسيارته الأجرة حيث لا أملك سيارة، لتسديد الفواتير وشراء احتياجات الشهر والتي تنتهي يوم 12 أو14 من الشهر وأعيد السيارة إليه وقت الظهر.حياة كالطاحونة ونحن كالجاموس، لكن للأسف بعيون مفتوحة ولذا ندوخ من طيلة الدوران. فأنا مثلاً لا أخزن القات ولا أدخن ولا أتعاطي أي مشروبات كحولية أو مواد مخدرة لكني مدوخ جداً! حيوان مع مرتبة الشرف أذهب أولاً إلى منزل مالك العمارة لأسلم ال10،000ريال وأقدم فروض الطاعة والولاء. امتدح جمال منزلة وذوق وكرم أم الأولاد فيبشرني بأن زوجته سوف تقيم 3 حفلات هذا الشهر وتريد أصنافاً من الكيك والحلويات فأستبشر خيراً بما سنأكل نحن أيضاً. لا يفوتني أن أعيد على مسامعه انه أفضل من قد سكنت في عقارهم وانه فلته من فلتات الزمان في الكرم والرجولة. ما شأن الرجولة في السكن؟!،أنا لا أدري غير انه كان ُيعجب بإطرائي ويبتسم بسرور. كنت أنافق.... يا أسفي على أخلاقي ورجولتي أنا في زمن بات التملق فيه من وسائل تمرير المواطن لأموره!!! أخذت سيارة جاري الأجرة الشديدة الضجيج حين تتحرك، أقودها فتصدر أصوات جرار يقتلع بيوت من الصفيح حتى يلتفت أليّ كل من أمر بجانبهم في الشارع، قدت السيارة وأنا أتنهد بإنهاك، هكذا الحياة،ما دخلي أنا باللصوص أو سياراتهم التي يحصلون عليها ببلاش؟؟ الآن بعد أن دفعت لجاري ألف ريال تبقى معي حوالي 24،000ريال. أدفع فواتير بقيمة 10،000ريال تتوزع على التلفون،الماء، الكهرباء وديون للبقال الذي يغطي العجز في المأكل والمشرب من تاريخ 18 في الشهر حتى نهايته ، ويتبقى جزء آخر من الديون للبقال أتركها ليوم آخر فيه يسر "مالي" وهو حتما لن يأتي.الآن المتبقي هو 14،000 ريال حتى نهاية الشهر ،فكما لا يخفى على أحد الطعام ليس كل ما يحتاجه الإنسان وإلا لأصبح "بسم الله ما شاء الله" حيواناً مع مرتبة الشرف. فمثلاً ابني مريض بالحمى والقيء منذ 5 أيام و يحتاج للطبيب والعلاج الذي سيكتبه الطبيب له يجب أن نشتريه. أتوقع أن تتكلف هذه المهمة مضاف إليها سعر المواصلات حوالي 2000 أو 2500 ريال. كذلك بناتي الاثنتين يحتجن إلى أحذية جديدة بسبب تمزّق القديمة ويشعرن بالحياء إذا اضطررن للخروج بها، فآثرن المكوث في البيت وفي هذا "حكمه" لا تتوفر لدى الأثرياء المبذرين! هذا الأمر خمنت أن يكلف حوالي 1500 ريال. ابني الكبير بدأ يجادل وبدأ جداله يحتد كونه قد بلغ ال17 عاماً دون أن يتلقى من والده مصروف يومي ولو يوم واحد في حياته. طلب المسكين مني 70 ريالا يومياً ليس إلا، لكنني حسبت أن هذا سيكون 2000ريال شهرياً غير انه ولد صالح وطالب مجتهد وكان أيضاً متحملاً مخلصاً للمسئولية فسلمته إياها طالباً منه ألا يحرجني بسرعة استنفاذها حيث لا أملك ريالا واحداً لإعطائه. بمجرد انتشار خبر الألفين ريال التي أعطيتها لأبني الكبير في البيت حتى حدث هرج ومرج ونظمت أختيه مظاهرة سلمية للمطالبة حتى ب"نصف" المبلغ.
رحلة حول العالم وفعلاً سلمت كل منهن 30 ريالا ، جبر الخواطر على الله ولكن" أنا" من يجبر بخاطري؟! جاءت زوجتي لتخبرني أن نقابها قد بلى حتى تشقق وأصبح لونه رمادي من استمرار الغسل واللبس أن النقابات رخيصة. أخبرتها أن جميع المطالب رخيصة، وأن العيب في الراتب وليس في الأسعار. شبكت هي يديها فوق صدرها قائلة: "إذن؟! ماذا أفعل؟" فتنهدت واقترحت ألا تخرج حتى يفرجها الله في يوم فيه يسر "مالي" هو حتماً ليس آتي...فأجابت بحده:" لديك أسبوع، وإلا سأخرج سافرة الوجه!!! أف أريد أن أزور أمي ." فقلت لها:" اسفري فما المعيب في ذلك؟! على الأقل يكون لضيق ذات اليد ميزة ولو واحده ، فالله أمر النساء بإظهار الوجه و الكفين ولم يأمر بإخفاء الوجه!!" فبلعت ريقها من خشية أن أكون جاداً وقد كنت جاداً فعلاً. كثيراً ما يطالبونني أولادي بأخذهم إلى حديقة السبعين، ليس لتكرار طلبهم بل لعدم الاستجابة له ولو لمرة مما يجعله يصبح مطلب وطني لا ينسونه. أفكر في الأمر فأكاد أوافق فهو مكان مجاني غير أنني أذكر أنهن يردن أن يجربن ركوب بعض الألعاب والركوب بفلوس ولابد أنهن يردن شراء عصير أو بسكوت...هذا كله فوق طاقتي فأصرف نظري وأخرج لكي لا يناقشني أحد! وحين أعود إلى بيتي ليلاً، أعطيهم محاضرة أن الأوقات المسلية منسية وأنني أشفق عليهن من الذهاب إلى مكان يتفرجن فيه علي الناس تلعب وتأكل وتمرح وهن متفرجات ليس إلا. فلا ألقى سوى الوجوم والصمت المطبق... تكسره أمهن كعادتها قائله أن الله سيفتح عليهن بالأزواج الأثرياء اللذين سيأخذونهن رحلة حول العالم في يوم "هو حتماً لن يأتي"!!!! الرئيس بجانبي كانت الأسعار ترتفع بتناوب مع هبوط حاد في المعنويات والجلد. لكنه امتحان للعبد من ربه وأنا فائز فيه بإذن الله!! نحن في حقيقة الأمر بشر، لا نحن مهرجين ولا سحرة...والوضع يحتاج لمعجزات وسحر لكي يستقيم. فجأة شعرت بأنني قد خرجت عن خط سيري وتجاوزت الشارع الذي أقصده وأصبحت في طريق خالي من السيارات والمارة...المحلات مغلقة، ولا يوجد باعة متجولين... استغربت وقررت أن أدير المقود لأعود إلى خط سيري الصحيح لكي أعود فأكمل لائحة مهامي لهذا اليوم المتعب. حين استدرت لرؤية ما إذا كان هناك أي سيارة آتيه من الاتجاة المعاكس وجدت فخامة الرئيس علي عبد الله صالح بجانبي... صرخت و شهقت من شدة الخوف. أوقفت السيارة في وسط الشارع وفركت عيناي بشدة وألتفت لأجده فعلاً بجانبي ويبتسم!!! كنت أنا وهو في السيارة وفي الشارع بمفردنا!! أحسست أن لساني قد تجمد..لست أدري لما؟! لم أستوعب أهي حقيقة أم حلم..ولكن لماذا سأحلم وأنا لست في فراشي بل أنا ذاهب لدفع إيجار شقتي؟ ثم قررت أنه ليس حلماً لأنني تذكرت أنني لم أعد أحلم منذ بلغت الثلاثون من العمر. فالحياة صارت صراع وملاكمة ولا وقت فيها للأحلام،وقد سألت زملائي فأسروا إلى أنهم كذلك ما عادوا يحلمون!! حاولت التشبث بما تبقي من تركيزي ووعيي الذي ركض في كل الاتجاهات كغزال شارد. تمتمت :"اسمح، أقصد اسمحوا لي بالبكاء بعد إذنكم" غير انه اشر بيده ألا أفعل. وسأل:"لماذا تريد أن تبكي؟" كانت الإجابة تستوجب كثير من الوقت والدراما، استجمعت قوتي وأجبت: " تعال معي وسوف أعطيك لائحة بما يجب أن اشتريه، وهو ليس ذهب ولا خمور. وليس ما يسمى كاتشب أو كورن فليكس. انه ضرورات للمأكل والمشرب. تعال معي لتسديد الفواتير ولشراء الرز والسكر والصابون. سأعطيك راتبي وأنت علمني المهارة كيف ستجعل هذا الراتب كاف لكل هذه المتطلبات. أنا يا فخامة الرئيس لا أمتلك قيمة العلاج وقت المرض..ولا مال للتسلية والفرح في العيد والمناسبات السارة. لم أقدم لابنتي حين تخرجت من الثانوية سوي حضن وقبله علي جبينها لم أستطع شراء بالونات. أعطيتها رسمه لكيكه فاخرة لتتفرج عليها. ليس لدي المال لأشتري لزوجتي نقاب ولا لبناتي-عزكم الله- أحذية. أصبح أي مطلب دخيل على خانة الأكل والشرب تحدي، كثيراً ما أخسره فيؤنبني ضميري واشعر أنني ظالم وأحزن و بالذات لأولادي اللذين لا ذنب لهم سوى أنني والدهم. فهل هكذا حياة عادلة أو منصفة لمواطن يمني شريف رمز العروبة والرجولة وأصل جميع العرب، نحن قد صغرنا في أعين زوجاتنا يا سيدي لأنا لا نلبي لهن أي احتياج؟! " لست أدري لماذا تجمع الدمع ففاض من عيني... لعلي أحسست كم أنا فعلاً مسكين!!! رجال بأجنحة أكملت حديثي وكان الرئيس قد كف عن الابتسام... ولمعت دمعة في عينية هو الآخر...الرجل قلبه "شفيق" قي واقع الأمر. أجابني:" أنت فعلاً ساحر خارق بل جميع أفراد أسرتك سحرة عظماء!" قلت بحزن:" ولكن السحر -أجاركم الله- أنهكنا يا فخامة الرئيس." قال:" هذا وضع لا يمكن أن اسكت عليه. أنا لن أدير ظهري للشرفاء يلتهمهم اللصوص، ولن أرض أن يعاني شعبي هكذا" قلت وأنا أسيطر على الدمع،" وزوجتي تعمل كيك وكعك لكي يسامحنا مالك العمارة في خمسة ألف ريال من الإيجار. بودي لو استطيع أن أجعلها ترتاح" فجأة هجمت علينا من السماء طيور سوداء، لا أدري ما هي، فلا هي غربان و لا صقور ولا نسور ولا بوم ولا خفافيش. لعلها رجال بأجنحة كانت أنيابها تقطر دماء و نظراتها ثاقبة وساخنة تخترق جلدي... صرخت وحاولت دفعها عنا وإغلاق النوافذ في ذات الوقت فلم افلح، مالها تكاد تمزق ساعدي؟ الرئيس يرمقها بعتب . يا فخامة الرئيس احميني، صوب إليها آلاف الرصاص، ونحن سنرميها بالسهام! لترجع البلابل إلي سمائنا و تقف علي بيوتنا الحمام!! صحوت من نومي فزعاً، أتصبب عرقا ولاهثا!!!! أوه... يا الله كان كابوساً مزعجاً! إذن كان كابوس...وحمدت الله على ذلك لأنني قلقت على سيارة جاري الأجرة فما ذنب الرجل لأدمر سيارته. كانت الساعة الثالثة عصراً...وجدت نفسي على سريري وفوق الطاولة بجانبي لائحة المهام التي يجب القيام بها. تنهدت ورفعت كتفي. أنا حقاً لست أدري أكان الكابوس هو ما عشته في حلمي يا فخامة الرئيس أم الكابوس هو ما سأنهض الآن للقيام به؟!