مازال نومه يشده إلى دهاليز الأحلام الفاشلة من قهقهات اليأس السائدة على سكونه المعتاد. منامه أشبه بالموت ، في العاشرة ليلا كان قد باغته وصرعه على فراشه إلى هذا الوقت عندما أنهى مفعول تخديره رنين منبه الساعة التي تشير إلى الثامنة صباحاً، أجبره صراخه للجلوس على فراشه ومفارقة عالم اللاوعي الذي يعانقه كل ليلة . أسكت ذلك الرنين بحركة من يده وبقى على وضعيته تلك يجول ببصره فضاء الغرفة وأدواتها المبعثرة بشكل مزر، نهض واقفاً من فراشه بعد ضياع خمس دقائق يستلهم النشاط من حتمية واجباته، أولها المنزلية. ها هو الميلاد الثاني للهلال منذ أن غادرت زوجته إلى بيت أبيها حانقة بعد أول شجار دار بينهما منذ زواجهما. خرج من الغرفة تاركاً الفوضى تبعثرها متجها إلى المطبخ ليعد لنفسه طعام الإفطار. اتهام زوجته بالغباء والبلاهة جعلها تترك المنزل. وضع الماء على النار لصنع الشاي وانشغل بصنع سندويتشات بالجبن الشيء الوحيد الذي يتقن إعداده. لم تكمل زوجته تعليمها حيث توقفت في الصفوف الإعدادية مع أنه حاصل على الدكتوراه بامتياز في علم الاجتماع لهذا كان الفرق بينهما كبيراً وشاسعاً إلا أنه ظل يقدرها ويحترمها ويعاملها كإنسانة لها كيان ومشاعر مرهفة لمدة تصل إلى العام من زواجهما السعيد لكنه مع ذلك يضج من أسئلتها السخيفة والثرثرة عن جيرانها وأقربائها، يتفاعل معها أحياناً ويراوغها في الغالب. عاد من جامعته ذلك اليوم متعباً غاضباً من مخلفات إشكال مع زميل يؤدي نفس مهنته فاستقبلته زوجته بأسئلتها الغزيرة وهو صامت لا يعرف كيف يرد عليها ، دخل غرفته ولحقت به بإلحاحها المتكرر ، لم يستطع أن يتحمل فضولها الذي في غير أوانه فالتفت إليها صارخاً في وجهها متهماً إياها بالغباء والبلاهة زاد على ذلك أن أمسكها بخشونة من ذراعها وألقاها بقسوة على الأرض وخرج منفعلاً من بيته على الفور ينفس عن غضبه في شوارع المدينة. هدأت مشاعره في العتمة وعاد إلى البيت ، عندما وصل إليها وجدها ساكنة مظلمة .. كانت زوجته قد غادرت البيت. أدرك أنها خرجت للتو لشيء يفهمه ، يبدو ، أنها بكت طويلاً بعد خروجه.. بدأ الماء بالغليان أطفأ النار التي شكلت عش البراد المتقد وأفرغه في الإبريق المحتوي على سكر وشاي صب محتوى الإبريق في كأس وارتشف منه رشفة لم يستسغها لكنه قبل صاغراً احتساء جل الكأس ، عندما كانت زوجته هنا كان مذاق الشاي لذيذاً، لم يقتف أثرها لاسترجاعها إلى بيته لاقتناعه بأنها هي المخطئة. عدم مواصلة تعليمها هو ما أوصلها إلى هذه الحالة ليست سوى أيام وتأتي خجلة من نفسها ، هو يتوقع أنها لن تستطيع الاستغناء عنه وها قد مر شهر ولم تأت، ظل يتساءل مراراً .. ترى ما يكون قد حل بها في هذه المدة .. لم يتوقع أن يجد نفسه فجأة وحيداً ومسئولاً عن كل شيء في المنزل ، لم يتوقع أن يكون العمل المنزلي بهذه الصعوبة كان يظن أنه سيقوم به أسرع من زوجته. زوجته يالها من امرأة رائعة تقوم بخدمة زوجها وإدارة شئون البيت على أكمل وجه حتى أنه لم ير شيئاً في غير مكانه ومع ذلك لم تشتك له من ضنك الأعمال المنزلية وإن كثرت. لكن ما بالها تركته كل هذه المدة ألم تعد تحبه. أكمل إفطاره وعاد إلى غرفته يرتدي بدلته الرسمية فقد أبلغ بالأمس أن اجتماع سيعقد اليوم سيحضر فيه العديد من المفكرين والكتاب من مختلف الدول العربية وسيكون هو أحد المحاضرين في هذا الاجتماع. انتهى من ارتداء ملابسه. اتجه إلى الباب قاصداً الخروج وهو ينظر إلى (الموبايل) المعلق بحزام بنطلونه متسائلاً .. هل اتصل بزوجتي وأعتذر لها ، كلا عن أي شيء سأعتذر هي التي يجب أن تتصل بي وتعتذر عن خطئها، نعم لابد أن تحضر .. مشى حتى باب المنزل وفتحه ثم توقف كالتمثال في مواجهة الباب فجأة عاد ليغلقه، يستل الموبايل من وسطه يضغط أرقام بيت عمه بانفعال متوتر.