مدخل : 1 - مفهوم الصورة : عالم الشعر , عالم جميل يموج بالحركة والألوان , لغته لا تعترف بالحدود و المنطق, يسعى الشاعر فيه وراء المطلق للتمسك به عبر تجربته الشعرية , متوسلا في ذلك الكلمة و الرمز و الإيقاع و الصورة » إنه (الشعر) صياغة جمالية للإيقاع الفني الخفي الذي يحكم تجربتنا الإنسانية الشاملة , وهو بذلك ممارسة للرؤية في أعماقها , ابتغاء استحضار الغائب من خلال اللغة [1] . وهو ليس كالنثر » الذي قوامه العقل و المنطق والوضوح … و يؤدي وظيفة إبلاغية مباشرة [2] إلا أن الشعر بخلاف ذلك » فهو يعتمد على الخيال أو الرؤية التي تحيد بدلالة اللغة الحقيقية عما وضعت لها أصلا لتشحنها بمعان جديدة وإيحاءات غير مألوفة [3]. يذكر ” أدونيس ” في كتابه ( مقدمة للشعر العربي ) أن الشعر » يأتي مفاجئا , غريبا عدو المنطق والحكمة والعقل ندخل معه إلى حرم الأسرار و يتحد بالأسطوري العجيب السحري[4]. و الشعر أو الشاعر , لا ينقل لنا الدلالات و المعاني بصورة رتيبة كما هي في الواقع , ولكنه يروم إلى اكتشاف كنه الأشياء بالشعور و الحدس لا بالعقل و الفكر . » لأن الفكر لا يجوز أن يدخل العالم الشعري إلا متقنعا غير سافر متلفعا بالمشاعر و التصورات و الظلال ذائبا في وهج الحس و الانفعال … ليس له أن يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا [5]. فالشاعر إذًا ليس كالعالم أو المفكر الذي يعبر بالكلمة العارية , إنه يعبر بالصورة و الإشارة و الرمز . 2 - مفهوم الصورة متعددة: إنَّ تحديد ماهية الصورة تحديدا دقيقا من الصعوبة بمكان , لأن الفنون بطبيعتها تكره القيود ، ولعل هذا هو السر في تعدد مفاهيم (الصورة) وتباينها بين النقاد ، بتعدد اتجاهاتهم ومنطلقاتهم الفكرية والفلسفية وبالتالي أضحى للصورة مفهومان : - مفهوم قديم لا يتعدى حدود التشبيه والمجاز و الكناية. - مفهوم جديد يضيف إلى الصورة البلاغية : الصورة الذهنية و الصورة الرمزية بالإضافة إلى الأسطورة لما لها من علاقة بالتصوير . 3 - مفهوم الصورة لغة : جاء في لسان العرب لابن منظور , مادة ( ص .و. ر) » الصورة في الشكل , والجمع صور , وقد صوره فتصور , وتصورت الشيء توهمت صورته , فتصور لي , والتصاوير : التماثيل. قال ” ابن الأثير ” : الصورة ترد في لسان العرب (لغتهم) على ظاهرها , وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته , وعلى معنى صفته , يقال: صورة الفعل كذا وكذا أي هيئته , وصورة كذا وكذا أي صفته [6]. - و أما التصوُّر فهو » مرور الفكر بالصورة الطبيعية التي سبق أن شاهدها وانفعل بها ثم اختزنها في مخيلته مروره بها يتصفحها [7]. - وأما التصوير فهو إبراز الصورة إلى الخارج بشكل فني , فالتصوُّر إذا عقلي أما التصوير فهو شكلي » إن التصوُّر هو العلاقة بين الصورة والتصوير , و أداته الفكر فقط , وأما التصوير فأداته الفكر واللسان واللغة [8]. - و التصوير في القرآن الكريم , ليس تصويرا شكليا بل هو تصوير شامل » فهو تصوير باللون , وتصوير بالحركة وتصوير بالتخييل , كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل , وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار , وجرس الكلمات , ونغم العبارات , وموسيقى السياق في إبراز صورة من الصور [9]. 4 - مفهوم الصورة في الاصطلاح : إنَّ الدارس للأدب العربي القديم لا يعثر على تعبير الصورة الشعرية في التراث الأدبي بالمفهوم المتداول الآن , وإنَّ كان شعرنا القديم لا يخلو من ضروب التصوير – كما أسلفت – لأن الدرس النقدي العربي كان يحصر التصوير في مجالات البلاغة المختلفة كالمجاز و التشبيه و الاستعارة. أما الصورة الشعرية -كمصطلح نقدي- الذي يُعنى بجماليات النص الأدبي قد دخل النقد العربي في العصر الحديث تأثرا بالدراسات الأدبية الغربية , ومسايرة لحركة التأثير والتأثر التي عرفتها الآداب العالمية وهو يتطور في حركية دائبة نحو الكمال , أخذ بقدر ما أعطى , وهذا ليس عيبا بقدر ما هو سعيٌ نحو المعاصرة ومحافظة على الأصالة و التميز. العربي وهو يتطور في حركية دائبة نحو الكمال , أخذ بقدر ما أعطى , وهذا ليس عيباً بقدر ما هو سعيٌ نحو المعاصرة ومحافظة على الأصالة و التميز. لقد ركزت أكثر التعريفات النقدية للصورة على وظيفتها ومجال عملها في الأدب , ويلاحظ الأستاذ ” الدكتور أحمد علي دهمان ” أن » مفهوم الصورة الشعرية ليس من المفاهيم البسيطة السريعة التحديد , وإنما هناك عدد من العوامل التي تدخل في تحديد طبيعتها : كالتجربة والشعور والفكر والمجاز والإدراك والتشابه والدقة … فهي من القضايا النقدية الصعبة , ولأن دراستها (الصورة) لا بد أن تُوقِع الدارس في مزالق العناية بالشكل أو بدور الخيال أو بدور موسيقى الشعر كما هو في المدارس الأدبية [10]. فالصورة عند ” أحمد علي دهمان ” مركبة و معقدة و تستعصي على الدارس. وللوقوف على مفهوم الصورة الشعرية وأهم عناصرها التركيبية , بودي أن أتتبع تعريفاتها عند القدماء مرورا بالمحدثين الغربيين ثم المحدثين العرب . لقد ظهر الاهتمام بالصورة في الدرس الأدبي عموما ، و الشعر خصوصا ، منذ حركة الترجمة التي عرفها الفكر العربي عن الفلسفة اليونانية ، ومدى الاحتكاك الحادث بين الحضارتين الغربية والعربية. فإذا كان الاهتمام بالصورة أصيلا بالنظر إلى الإبداع الأدبي وتحليله , فقد رأينا أن الاصطلاح قديم كذلك , يتردد في المصنفات النقدية , وإِنْ برُؤَى تتقارب حينا ، وتتباعد حينا آخر , فهو ليس جديدا ولا يخفى أن التذوق الجمالي منذ أن كان الشعر في المجتمعات القديمة كان مصدره الصورة التي تساعد على اكتمال الخصائص الفنية في الفن و الأعمال الأدبية [11]. 4.1 - مفهوم الصورة عند القدماء : لقد كانت الصورة الشعرية وما تزال موضوعا مخصوصا بالمدح و الثناء , ولها من الحظوة بمكان , والعجيب أن يكون هذا موضع إجماع بين نقاد ينتمون إلى عصور و ثقافات متنوعة , فهذا ” أرسطو ” يميزها عن باقي الأساليب بالتشريف , فيقول : » ولكن أعظم الأساليب حقا هو أسلوب الاستعارة…وهو آية الموهبة [12]. ومما تقدم نخلص إلى أن ” أرسطو” يربط الصورة بإحدى طرق المحاكاة الثلاث ، ويعمِّق الصلة بين الشعر والرسام , فإذا كان الرسام وهو فنان يستعمل الريشة والألوان , فإن الشاعر يستعمل الألفاظ والمفردات ويصوغها في قالب فني مؤثر يترك أثره في المتلقي . وحتى تكون الصورة حية في النص الأدبي , لها ما لها من مفعول و تأثير , فلا بد لها من خيال يخرجها من النمطية والتقرير والمباشرة , فالخيال هو الذي يحلِّق بالقارئ في الآفاق الرحبة , ويخلق له دنيا جديدة , وعوامل لا مرئية تخرجه من العزلة والتقوقع.. فالخيال الذي يرى فيه ” سقراط ” نوعا من الجنون العلوي , والأمر نفسه عند ” أفلاطون ” الذي كان يعتقد » أن الشعراء مسكونون بالأرواح, وهذه الأرواح من الممكن أن تكون خيِّرة كما يمكن أن تكون أرواحا شرِّيرة [13]. وهذا الاعتقاد بأن الشاعر مهووس , وله علاقة بالأرواح والجن , له أثره في الشعر العربي القديم , فقد نُسِب إلى الشعراء المجيدين أن أرواحهم ممزوجة بالجن , كما نُسبوا إلى (وادي عبقر) الذي تسكنه الجن حسب اعتقادهم و زعمهم , وكان وراء كل شاعر مجيد جِنٌّ يسنده و يلهمه. لقد أخذ العرب القدماء مفهوم الصورة مع الفلسفة اليونانية , وبالذات الفلسفة الأرسطية , وجرَّهُم فصل ” أرسطو ” بين الصورة والهُيُولي (مادة يصعب الإمساك بها ) إلى الفصل بين اللفظ والمعنى في تفسير القرآن الكريم ، وسرعان ما انتقل هذا الفصل بين اللفظ والمعنى إلى الشعر الذي يُعَد من الشواهد في تفسير القرآن الكريم على حد تعبير الدكتور”علي البطل [14]. فأبو هلال العسكري” يعلنها صراحة » الألفاظ أجساد و المعاني أرواح [15]. أما “الجاحظ “فيرى » أن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي , والبدوي والقروي , وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ, وسهولة المخرج , وكثرة الماء , و في صحة الطبع وجودة السبك , وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير [16]. ويرى الدكتور ” فايز الداية ” أن ” السكّاكي ” في كتابه ( مفتاح العلوم ) اهتم كثيرا بالتفريعات ، و أهمل الأصول وكذا النصوص الإبداعية , فكانت جهود السكّاكي رغم أهميتها عبارة عن تقنين وتقعيد بعيداً عن جوهر البلاغة وروحها. وهذا ما يلاحظه كثير من علماء البلاغة الذين جاءوا من بعد ” السكاكي ” , وكل دارس تعامل مع الكتب البلاغية القديمة » وهذا مما أثر سلبا في الإنتاج الأدبي الذي لم يجد من يُقوِّمُهُ ويُبَيِّنُ أَلَقَهُ [17]. وضمن هذا الجو الذي اختلطت فيه القيم النقدية , وضاعت فيه المفاهيم البلاغية الجوهرية , وضع “عبد القاهر الجرجاني” القواعد الأساسية في البناء النقدي العربي من خلال فهمه لطبيعة الصورة ، التي هي عنده مرادفة للنظم أو الصياغة , فنظرية النظم عنده لا تعني رصف الألفاظ بعضها بجانب بعض بقدر ما تعني تَوَخِّي معاني النحو التي تخلق التفاعل و النماء داخل السياق. فالصورة إذًا حسب نظرية النظم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالصياغة ، وليس غريبا أن يراوح النقد العربي مكانه ويهتم بالشكليات و التفريعات و التقنين و التقعيد لمختلف العلوم وبخاصة البلاغية منها , “فالجاحظ” يرى أن الشعر ضرب من التصوير بينما نجد “قدامة بن جعفر” قد فتح الباب واسعا أمام المنطق في الشعر ,وبالتالي صار مفهوم الصورة متأثرا بهذه الثقافة النقدية حيث أصبحت مقصودة لذاتها , أي أنها غاية وليست وسيلة لفهم الشعر و إبراز جمالياته للمتلقي. فكانت الصورة عندهم (القدماء) جزئية لا كاملة , فهي لا تتعدى كونها استعارة و تشبيها وكناية وغيرها من علوم البلاغة التي تهتم بتنميق المعنى ليس إلا. وفي ظل هذا الموروث بادر “عبد القاهر الجرجاني” إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة ووضع الأصول الصحيحة, لتغيير ما هو سائد عند سابقيه , » فلم يتعمَّق أحد من النقاد العرب القدماء ما تعمَّقه عبد القاهر الجرجاني في فهم الصورة معتمدا في كل ذلك أساسا على فكرته على عقد الصلة بين الشعر و الفنون النفعية و طرق النقش و التصوير [18]. 5 - مفهوم الصورة عند الغربيين : يُعرِّف الشاعر الفرنسي “بيار ريفاردي” (1889- 1960) – وهو من المدرسة الرومانتيكية- لفظة صورة IMAGE بأنها: » إبداع ذهني صرف , وهي لا يمكن أن تنبثق من المقارنة و إنما تنبثق من الجمع بين حقيقتين واقعيتين تتفاوتان في البعد قلة وكثرة , ولا يمكن إحداث صورة المقارنة بين حقيقتين واقعيتين بعيدتين لم يَدْرِكُ ما بينهما من علاقات سوى العقل [19] فالصورة إذًا عند “ريفاردي” وغيره من الرومانسيين إبداع ذهني تعتمد أساسا على الخيال , و العقل وحده هو الذي يدرك علاقاتها. وكان لنظرية “كولريدج” في الخيال أثر كبير في بناء الصورة الشعرية لأنه يقوم بالدور الأساس في بنائها عن طريق الجمع بين عناصرها المختلفة. وترتبط الصورة بالخيال ارتباطا وثيقا فبواسطة فاعلية الخيال ونشاطه » تنفذ الصورة إلى مُخَيِّلَة المتلقي فتنطبع فيها بشكل معين وهيئة مخصوصة , ناقلة إحساس الشاعر تجاه الأشياء , وانفعاله بِها , وتفاعله معها [20].