كانت الدهشة عند الإنسان الأول هي السمة ورد الفعل الطبيعي أمام كل الظواهر الطبيعية القاسية والحيوانات المفترسة التي تحيطه، فيسرع كي يقدم القرابين بذبح الذبائح. إذا ما عاد الهدوء, تأمل حاله وأعاد ترتيب أفكاره ووصف ما كان بطريقة يتقبلها عقله. فكانت الخطوة الأولى للحكاية الخرافية والأساطير. ما تلبث أن يتناقلها الأفراد بل والأجيال جيلاً بعد جيل, وغالباً ما يضيف كل منهم من خياله إضافة جديدة. والملاحظ أن كل شعوب العالم لها هذان الضربان من القص.. المروي والمكتوب، فمن الشعر للهند «المهابهاراتا» وقصص الحيوانات، وللفرس «الشاهناما» وبعض من «كليلة ودمنة»، ولليونان «الإلياذة» وحكايات «إيسوب»، و«دون كيشوت» بإسبانيا و«الأيام العشرة» لإيطاليا وغيرها. ومن النثر للعرب أيامهم والخرافات العربية (الحكايات الخرافية). إجمال القول إنه مع الاختلاف بين الشعوب في موضوع القص, اهتمت أغلب الشعوب بأسلوب الحكي وجماله.. كما كان للحيوان نصيب كبير في هذا التراث الإنساني. وقد عُني القرآن الكريم بالقصص, فكانت قصص الأولين والأمم الماضية, وتحدث عن الأنبياء. وهو ما أفرز فيما بعد القصص الديني. كما اعتاد الخلفاء الاستماع إلى القصاص في مجالسهم, فكانت قصص أخرى غير التي يعرفها ويقرؤها العامة. وقد هاجم بعض المستشرقين فن القصص للعرب، لأنه كتب من أجل الوصول إلى نتيجة محددة, أو خاتمة معروفة سلفاً, التي هي غالباً أخلاقية وتسعى للموعظة الحسنة. كما قال بعض العرب بمثل ما قال به الغرب. فقال د. محمد غنيمي هلال: «لم يكن للقصة قبل العصر الحديث عندنا شأن يذكر», وقال توفيق الحكيم: «كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة, لذة سريعة, مفهومة, مختطفة اختطافاً». وهذا القول (بعدم وجود فن القص عند العرب) من شأنه أننا نأخذ القصص القديم بالمقاييس الحديثة. وقد تغلب الافتراض الأخير معتمدين في ذلك على فكرة القياس على المنتج الحكائي القديم بنفس أدوات القياس الحديثة.. وهو في النهاية قول مجافٍ للحقيقة (د.مصطفى عبدالشافي الشوري). إن التراث الشفاهي, وهو جملة الموروث الثقافي من الحكم والأمثال والحكايات والنوادر والأحاجي والألغاز والأساطير والملاحم، التي يتوارثها الأبناء عن الأجداد والآباء والأمهات, وتنتقل من جيل إلى جيل شفهياً. وهو التراث المعبأ بخبرات الأجداد وحكمة الحكماء, المتجددة برؤية الأبناء والقابلة للإضافة على يد الأحفاد. يعد هذا التراث الشفاه العربي من الثراء والحنكة ما يجعلنا لا نغض الطرف عنه أبداً (فضلاً عن التراث المدون). وهو يتميز بعدد من الخصائص: يعبر التراث الشفاه بوجهة نظر عامة ومقبولة من الجماعة على تنوع واختلاف اتجاهاتها واهتماماتها وربما مستواها الاقتصادي والتعليمي أو المعرفي.. غالباً ما يتضمن ذلك التراث قضايا عامة, وأفكاراً متنوعة حول الزمان والمكان.. وقد يناقش فكرة الخلق وأحوال الكون, وبالجملة يتضمن من القضايا الميتافيزيقية ما يجعله محيطاً بالفكر الفلسفي وإن استخدم أداة غير الأداة المباشرة للتحليل والرؤية العقلية. يعتمد التراث الشفاه على قدر وافر من الترميز المكشوف أو البسيط, بحيث يسهل على الجميع فهمه بل والإضافة إليه.. مع سلاسة الأسلوب, ووضوح الفكرة, والشمولية في المعنى, وتوظيف البيئة بكل عناصرها، وخصوصاً «الحيوان» من أهم ملامح التراث الشفاه. كما يتميز بتضمين جملة ما يحمل التراث الشفاه خصائص وميزات القوم المخاطب، من خلال التأكيد على العادات والتقاليد, ومن خلال الإشادة بالأجداد.. وغيرها. لعل الحكاية هي أبسط وأكثر صور نقل التراث الشفاه من الأجداد إلى الأحفاد. ذلك لخصوصية «الحكاية» كقالب فني غير مقعر الخصائص, بسيط التناول, سهل التحميل بكل أغراض الفكر الإنساني.. البسيط منه, والمعقد. فهي تتميز بعدد من الميزات: مخاطبة الغريزة الحكائية عند المتلقي وصاحب الحكاية معاً, فالإنسان حكائي بالفطرة. الانتقال الزماني والمكاني بلا تمهيد منطقي وباستخدام أية وسيلة, ذهنية كانت أو خيالية. كما أن الحكاية في انتقالاتها من الفرد إلى الجماعة, لا تسمح بالإضافة الخاصة إلا بالقدر المحدود الذي قد يبدو غير محسوس, وإن بدا جلياً مع تراكم الانتقالات والإضافات. تحمل كل الشعوب في تراثها الشفاه قدراً غير قليل من الحكايات, والتي يحرص عليها الجميع, جيلاً بعد جيل. فقد عرفت الحكايات المعبأة بالقيم العربية والمفاهيم الخاصة بالعرب, والهند, وأهل الصين, كما عرفها سكان أوروبا من إيطاليا جنوباً حتى الدول الاسكندينافية شمالاً. وهو ما يشير إلى كونها من الأشكال المتوافقة مع المخيلة البشرية. إلا أنه تلاحظ أن تلك الموروثات الشفهية معرضة للضياع وربما للانقراض, خصوصاً مع زحف التقدم التكنولوجي, وتأثير وسائل الاتصال والإعلام الحديثة, ففقد الجد وربما الأب دورهما مع الأجيال الجديدة.. كما فقد الحكي متعته مع الإيقاع المسرع من موقع إلى آخر, ومن بلدة إلى أخرى. لقد كان للعرب تراثهم القصصي كما لكل الأمم الحضارية, وإن قال بعض المستشرقين بخلاف ذلك, فالحقيقة الموضوعية تؤكد العكس تماماً وإن كنا كعرب نؤمن بأن الكيفية التي كتبت بها القصة العربية مخالفة عما هو متعارف عليه حديثاً وأن الأساس هو «الحكي» و«السرد» في هذا الجنس الأدبي. نظرة واحدة لتاريخ العرب القديم توضح بجلاء أن العرب منذ جاهليتهم الأولى الموغلة في القدم إلى جاهليتهم الثانية التي سبقت الإسلام كان لهم أساطيرهم وقصصهم وأخبارهم التي تتحدث عن معاركهم.. فهم كانوا مفطورين على القص, ميالين إلى استخدامه في أوقات فراغهم وسمرها. في العصر الأموي أصبح القص عملاً رسمياً وعُني الخلفاء بتعيين من يملكون موهبة القص لوعظ الناس وسرد الحكايات الدينية في الخطب ومجالس الوعظ. وقد عرف عن معاوية أنه عين «سليم بن عتر» قاضياً وقاصاً بمصر. عموماً هناك القصص الديني وقصص التسلية الذي يشكل الخيال والحيوان فيه جانباً لا يغفل. لقد لعب المؤرخون والمحدثون وشراح آيات الذكر الحكيم, من أمثال الطبري والزمخشري وغيرهما لعبوا دوراً في تطور القصص الديني. وربما يعد كتاب «قصص الأنبياء» من أكثر الكتب وألصقها إلى فن القص وهو للكسائي, كذلك كتاب«عرائس المجالس» للثعالبي. كما قام البعض من القدماء بتقديم تعريف لغوي للقصة، فقال «الزبيدي»: «القص البيان, والقاص من يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها». والحقيقة تؤكد أن القصة لدى العرب لم تكن جوهر الأدب كالشعر والخطابة والرسائل، لقد ارتبطت القصة القصيرة العربية منذ نشأتها بالأساطير القديمة التي روت أحلام الإنسان البدائي وعلاقته بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة. منها قصة «فتنة الزهرة للملكين هاروت وماروت», ومنها ما كانوا يتحدثون به عن القمر حين أراد أن يتزوج البدران من الثريا. ومنها ما تحدثوا به عن أصنامهم: هبل رب الأرباب, واللات والعزى وثالثهما مناة. ومنها حديثهم عن الكعبة والحجر الأسود والصفا والمروة, وقصة عام الفيل, وقصص الغيلان وشياطين الشعر, ثم قصصهم عن أقوام العرب البائدة كإرم ذات العماد وعاد وثمود, وحديث العماليق كعوج بن عنق، وغيرها كثير.. وقد أشار القرآن الكريم إلى بعضها من قبيل العظة والعبرة, ليتعرف العرب إلى وحدانية الله وصدق رسالة رسوله الكريم. كان للقصص وظيفة المسامرة, بالإضافة إلى محاولة تفسير الظواهر الكونية. وليس لدلالة وجود أحسن القصص في القرآن الكريم من يخطئ المعنى.. فتحدث العرب عن قصة نوح وعاد وثمود وقصة يوسف وعيسى وأهل الكهف وغيرها. عموماً يقال إن أول قاصٍ في الإسلام هو «تميم الداري», فقد أذن له عمر بن الخطاب في آخر ولايته, وكذلك في عهد عثمان بن عفان كان العربي القديم (قبل الإسلام) محافظاً على قدر كبير من الطبائع العقلية لأجداده. وكان الشعر تقدم تقدماً كبيراً وأصبح الفن الأول لديهم, إلا أنهم لم يتخلوا عن حفظ الكثير من قصص العرب وحرصوا على ذكرها في أسفارهم، ف«امرؤ القيس» كان راوياً لأبي «دؤاد الإيادي», و«الأعشى» راوياً لخاله «المسيب بن علس», و«زهير بن أبي سلمى» راوياً لثلاثة شعراء: «أوس بن حجر», «طفيل الغنوي» و«خاله بشامة بن الغدير».