الكشف عن تصعيد وشيك للحوثيين سيتسبب في مضاعفة معاناة السكان في مناطق سيطرة الميلشيا    صمت "الرئاسي" و"الحكومة" يفاقم أزمة الكهرباء في عدن    ثمن باخرة نفط من شبوة كفيلة بانشاء محطة كهربا استراتيجية    إيران وإسرائيل.. نهاية لمرحلة الردع أم دورة جديدة من التصعيد؟    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    مصرع وإصابة عدد من عناصر المليشيات الحوثية الإرهابية غربي تعز    غارات عنيفة على مناطق قطاع غزة والاحتلال أكبر مصنع للأدوية    السيول الغزيرة تقطع الخط الدولي وتجرف سيارة في حضرموت    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    شاب يقتل شقيقه جنوبي اليمن ووالده يتنازل عن دمه فورًا    الحوثيون يغلقون مسجد في عمران بعد إتهام خطيب المسجد بالترضي على الصحابة    صاعقة رعدية تنهي حياة شاب يمني    محمد المساح..وداعا يا صاحبنا الجميل!    صورة ..الحوثيون يهدّون الناشط السعودي حصان الرئيس الراحل "صالح" في الحديدة    آية في القرآن تجلب الرزق وفضل سورة فيه تبعد الفقر    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    نصيب تهامة من المناصب العليا للشرعية مستشار لا يستشار    على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    العليمي يتحدث صادقآ عن آلآف المشاريع في المناطق المحررة    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    العليمي يكرّر كذبات سيّده عفاش بالحديث عن مشاريع غير موجودة على الأرض    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللغة اليمنية في القرآن الكريم
نشر في الجمهورية يوم 26 - 06 - 2012

القول إن القرآن نزل بلغة قريش فيه تعصُّب قبلي مناطقي ساد أيام الأمويين والعباسيين في إطار بيئة عامة سادتها التجاذبات العصبية بين المضرية والقحطانية ثم القرشية والحجازية والبصرية والكوفية والبغدادية...وغيرهاومن هذه المصادر التي أخذت هذه المناظرة فطارت بها في عالم الأدب:
1 - إعلام الناس بما وقع للبرامكة - الإتليدي .. وقال: “يجعلون أصابعهم في آذانهم”، ولم يقل شناترهم.
2 - المحاسن والمساوئ - إبراهيم البيهقي (نحو 320 ه): قيل: كان أبو العباس يطيل السهر ويعجبه الفصاحة ومنازعة الرجال، فسهر ذات ليلة وعنده أناس من مضر وفهر وفيهم خالد بن صفوان بن الأهتم التميميّ وناس من اليمن فيهم إبراهيم بن مخرمة الكندي، فقال أبو العباس: هاتوا واقطعوا ليلتنا بمحادثتكم. فبدأ إبراهيم بن مخرمة وقال: يا أمير المؤمنين إن أخوالكم هم الناس وهم العرب الأول ..فقال أبو العباس: “ما أرى مضر تقول بقولك هذا وما أظن خالداً يرضى بذلك”. فقال خالد: “إن أذن أمير المؤمنين وأمنت المواخذة تكلمت”. فقال أبو العباس: “تكلم ولا ترهب أحداً”. فقال خالد: “يا أمير المؤمنين خاب المتكلم وأخطأ المتقحّم ..والله يا أمير المؤمنين ما لهم ألسنة فصيحة ولا لغة صحيحة .. ثم التفت إلى الكندي وقال: كيف علمك بلغات قومك؟ قال: أنا بها عالم. ... قال: فالشناتر؟ قال: الإصبع. .. قال: فإن الله -عز وجل- يقول: “جعلوا أصابعهم في آذانهم”، ولم يقل شناترهم في صنانيرهم.
3 - الجليس الصالح والأنيس الناصح - المعافى بن زكريا: (390 ه): قال: فما اسم الأصابع؟ قال الشناتر، ... قال: فإن الله تعالى يقول: “إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون” (يوسف: 2)، وقال: “بلسان عربي مبين” (الشعراء: 195)، وقال: “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه” (إبراهيم:4)، فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل .. وقال: “يجعلون أصابعهم في آذانهم” البقرة:19 ولم يقل شناترهم في صناراتهم.
4 - التذكرة الحمدونية ابن حمدون (562 ه) : فقال: ألك علم بلغة قومك؟ قال: نعم...قال: “فما اسم الأصابع؟”، قال: “الشناتر” ...ولم يقل شناترهم في صناراتهم.
5 - تاريخ دمشق - ابن عساكر (571 ه): قال كان أبو العباس يعجبه السمر ومنازعة الرجال فحضره ذات ليلة في سمره إبراهيم بن مخرمة الكندي وناس من بني الحارث بن كعب وهم أخواله وخالد بن صفوان بن إبراهيم التميمي، فخاضوا في الحديث وتذاكروا مضر واليمن فقال إبراهيم: “يا أمير المؤمنين: إن اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا... هم العرب العاربة وغيرهم المتعربة” ... قال أبو العباس: “ما أظن التميمي يرضى بقولك”، ثم قال: “ما تقول يا خالد؟” ... فقال: “أخطأ يا أمير المؤمنين ... فكيف يكون ما قال والقوم ليست لهم ألسن فصيحة ولا لغة صحيحة” ... ثم التفت فقال: “أعالم أنت بلغة قومك؟”، قال: “نعم” ...قال: “فما اسم الأصابع؟”، قال: “الشناتر” ...فقال له: “أفمؤمن أنت بكتاب الله؟”، قال: “نعم”، قال: “فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل.. ألم تر أن الله -عز وجل- قال: “يجعلون أصابعهم في آذانهم” ولم يقل شناترهم في صناراتهم”(20).
وقد عقب على كل ذلك ابن فارس في فقه اللغة (395 ه) أن اختلاف اللغة لا يقدح في الأنساب.. فقال:
“وأما من زعم أن ولدَ إسماعيل -عَلَيْهِ السلام- يُعيّرون وَلدَ قَحْطان أنهم ليسوا عرباً، ويحتجُّون عليهم بأنَّ لسانَهم الحِمْيريَّة وأنهم يُسَمُّون اللِّحية بغير اسمها - مع قول الله -جلّ ثناؤه- فِي قصة من قال: “لا تأخذ بلِحْيتي ولا بِرَأْسي”، وأنهم يُسمُّون الذّيب “القِلوْبَ” - مع قوله: “وأخاف أن يأكله الذّئب” - ويسمون الأصابع “الشنَّاتر” - وَقَدْ قال الله -جلّ ثناؤه: “يجعلون أصابعهم فِي آذانِهم” - وأنهم يسمّون الصَّديق “الخِلْمَ” - والله -جل ثناؤه يقول: “أَوْ صَديقِكم” - وَمَا أشبه هَذَا. فليس اختلافُ اللُّغات قادِحاً فِي الأنساب”(21).
وانظر في قوله: “ما أظن مضر ترضى بذلك”..فلقد كان الزمن زمن صراع بين اليمنية والمضرية على كافة الأوجه العسكرية والثقافية والتاريخية وغيرها، وما أظن هذه الروايات إلا روايات متحيزة ومصطنعة للحط من شأن اليمنية؛ لأن اليمنية حملت الراية العسكرية والجهاد، بينما حمل كثيرٌ من مضر الراية الثقافية فأمكن لها ما تحصل لها من علوم وسيطرة على بعض المجالات العلمية ومنها اللغوية والثقافية إلا أن تنشر مثل هذه المزاعم، ولربما جاؤوا في ذلك المجلس برجل آخر دعي على اليمنية ولا يعرف من لغتهم وثقافتهم شيئاً فنسبوه لابن مخرمة..وذلك أن كل النقوش والكتابات اليمنية واستعمالات لفظ الأصابع في كافة المجالات واللهجات اليمنية المختلفة لم تذكر ما ذكرته تلك الروايات، بل ذكرت الأصابع صراحة دون توهم، وفي المثل الذي سقناه خير دليل على ذلك.
ونجد من اللغويين من لا يرضى بالتحامل على اللغة اليمانية ويتهم أصحاب تلك التحاملات، وخاصة في المثل السابق، بالتدليس، ومنهم أحمد بن فارس في “معجم مقاييس اللغة”، فهو يصف ابن دريد بالتدليس فيما يعزوه إلى اليمن. ويضيف: “ولا نقول لأئمتنا إلا جميلاً”، ويقول: “على أنهم يقولون “الصنارة” بلغة اليمن الأذن، و”الشبص” الخشونة، وليس هو بشيء”(22). وقد ذكرنا نقشاً يورد إسم الأذن صراحة في اللغة اليمنية.
الأسباب التي جعلت اللغويين يقولون بعدم عربية اللغة اليمنية:
إن من أهم الأسباب التي جعلت اللغويين القدامى يقولون بعدم عربية لغة أهل الجنوب (اليمن):
1 - أن العرب اقتصروا في جمع مادتهم اللغوية وحصرها على مناطق البادية من شمال شبه الجزيرة العربية، معللين ذلك بأن الحواضر وأطراف الجزيرة لا تمثل لغتها لغة العرب تمثيلاً صحيحاً لتعرضها لمؤثرات أجنبية..وقد كتب ابن جني باباً بعنوان “في ترك الأخذ عن المدر كما أخذ عن أهل الوبر”، قال فيه: “علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل. ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعتر في شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر”(23).
ومن هنا جاء تصنيف اليمنيين على أنهم أهل مدر لا تؤخذ اللغة عنهم. كما استدرك ابن جني بالقول: “وكذلك لو فشى في هل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها”(24). وعلى هذا القول.. فأين نضع تلك الألفاظ التي قيل أنها فارسية لكنها عُربت مثل: أبريق، وسندس، وإستبرق...وغيرها؟!
وقال أبو نصر الفارابي في كتابه المسمى الألفاظ والحروف: “كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعاً وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدى وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد؛ فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين!”(25).
“وقد أخذت قواعد اللغة العربية عند وضعها في البصرة من مراجعة لغات هذه القبائل على اعتبار أنها هي الفصحى ولغاتها هي الأكثر في الاستعمال” (26)..
وانظر إلى قوله: “بعض كنانة وبعض الطائيين”، وكأن للبعض الآخر من القبيلتين لغة أخرى غير تلك السابقة.
أما القبائل التي تسكن أطراف الجزيرة وعلى حدودها فهي أقل فصاحة وأضعف لساناً وقد ظهرت الرخاوة في ألسنتها منذ العصر الجاهلي وذلك بسبب احتكاك هذه القبائل أو اختلاطها بالأمم الأعجمية.
ويقول الفارابي بعد ذكره القبائل الفصحى: “ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من حزام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وأياد لمجاورتهم أهل بلاد الشام وأكثرهم نصارى يتكلمون بالعبرانية، ولا من تغلب اليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين بدؤوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم”(27).
ولو دققنا النظر في هذا القول وربطناه بما جرى في التاريخ اللغوي العربي فعلاً لرددناه من جانبين:
- الأول: أن اللغويين ومعهم علماء الأدب والنحو وغيرهم يقولون إن أصل منشأ اللغة العربية الفصحى من الشمال (الآرامية، والنبطية، والكنعانية...وغيرها)، والشمال أهل مدر ومدن ودول وحضارات، فكيف أخذ عنهم فصاحة اللغة أو تطورها ولا يؤخذ عن أهل الجنوب (اليمن) وهم أهل مدر ومدن وحضر؟! أليس هذا تناقضاً واضحاً؟
وإذا كان المقصود بالشمال شمال الجزيرة العربية من القبائل المجاورة لتلك الحضارات (الثمودية، والصفوية، واللحيانية)؛ فإن الجنوب (اليمن) أقرب مكاناً وأكثر احتكاكاً من ممالك الشمال، والأصل أن يؤخذ ويتم التثاقف من الأقرب فالأقرب لا من الأبعد فالأقرب.
كذلك لا يؤخذ عن هذه القبائل اللغة بسبب مقاييس الفارابي لمجاورة تلك القبائل ممالك غير عربية وهي أهل مدر، فكيف أجازوا الأخذ عنها ولم يجيزوا لأمثالها الأخذ عنها؟!.
كما أن القبائل الثمودية والصفوية واللحيانية هي قبائل جنوبية هاجرت إلى الشمال وحملت معها خطها المسندي ولغتها الجنوبية، وكثيرٌ من ألفاظها ولغاتها المستعملة مشتركة مع الجنوبية اليمنية.
- الثاني: أن النقوش اليمنية القديمة تحدثت عن أن أعراب الصحراء وأطراف وتخوم الدولة السبئية ومن بعدها الحميرية كانوا يخضعون للحكم في اليمن مع ما في ذلك من الاحتكاك والاختلاط.. فقد ذكرت نقوش الدولة السبئية المتأخرة والدولة الحميرية بالقول مثلاً: ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وطود وأعرابهم..وتكرر هذا القول وبصيغ مختلفة مرات عديدة في كثيرٍ من تلك النقوش، كما ذكرت بعض النقوش أن هؤلاء الأعراب كانوا يثورون بين الفترة والأخرى على المملكة فتقوم المملكة بتأديبهم وإخضاعهم مرة أخرى..كما وجدت الكثير من النقوش تتحدث عن وصول حكم بعض الملوك إلى جنوب مصر والبحرين وحكموا كامل الجزيرة العربية، مما يعني دخول الجزيرة بكل أعرابها التي تعد أهل وبر وأخذ عنهم فصاحة اللغة، تحت حكم اليمن وكانت لغة الكتابة يومها هي اللغة اليمنية الجنوبية كما أكدته النقوش التي عثر عليها في مناطق عديدة من المملكة العربية السعودية اليوم، فكيف تم الانسلاخ عنها والتنكر لها فيما بعد؟!
وإذا اقتصر أمر أخذ اللغة عن البدو أهل الصحراء، وعلة اللغويين الرئيسة أن أهل الصحراء لم يحتكوا بأمم ولا حضارات أخرى (أي منغلقين على أنفسهم) مما جعلهم محافظين على صفاء لغتهم، يعززون الرأي القائل بأن اللغة توقيفية وليست اصطلاحية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: كيف لنا أن نعرف كيف جاءت اللغة لأهل الصحراء بتلك الدقة والتناسق والتناغم والترابط من فصاحة وبيان وغيرها من المظاهر الجمالية والتي انفردت بها عن سائر اللغات البشرية؟ وكيف نشأت عندهم وهم معزولون عن العالم ولم يعرفوا تدويناً ولا تلقيناً ولا استقراراً أيضاً يمكنهم من دراسة اللغة وتطورها؟!، كما لم يؤثر عنهم تدوين أو نقوش عدى بضعة نقوش فقط هي: “نقش رقوش بالحجر” (مدائن صالح) المؤرخ في سنة 267م، “نقش أم جمال الأول” المؤرخ فيما بين 250-270م، “نقش النمارة” المؤرخ في سنة 328م، “نقش سككا الأول” المؤرخ - تقريباً- في القرن الخامس الميلادي، “نقش سكاكا الثاني” المؤرخ - تقريباً - في القرن الخامس الميلادي، “نقش زبد” المؤرخ في سنة 512م، “نقش جبل أسيس” المؤرخ في سنة 528م، “نقش حران” المؤرخ في سنة 568، “نقش أم جمال الثاني” المؤرخ - تقريباً- في القرن السادس الميلادي، مع أن هذه النقوش في تحليلها تعود لممالك مدنية مستقرة كمملكة كندة مثلاً، وهي أقرب إلى الخربشات منها إلى الحروف الواضحة، وقارئها إنما يتوهم حروفها توهماً لا تيقناً لعدم وضوح حروفها.
ولقد كان عرب شمال ووسط الجزيرة رعاة يبحثون عن الكلأ والماء، ولم يكن لهم هم حضاري أو معرفي، فضلاً عن الصراعات القبلية والتناحر المستمر يجعلهم في شغل شاغل عن الكتابة والعلم. مع أن علماء اللغة في العالم أجمع -قديمهم وحديثهم- يكادون يجمعون على أن اللغة وكتابتها ونشأتها وفصاحتها لا تكون إلا في مجتمع حضاري مستقر في نفس المكان الذي وجد فيه وكوّن فيه حضارته؛ لأنه ناتج عن تراكم كمي معرفي وحاجة الحضارات للحفاظ على نشأتها ومعالمها ومعارفها وترتيب أمورها السياسية والثقافية والعلمية والعمرانية وغيرها واحتكاكهم بالأمم الأخرى.. ألم يُقل إن اللغة الفصحى في قريش نشأت من الاختلاط والرحلات والتجارة واحتكاك القوم بالأقوام الأخرى؟ فكيف يقر الاختلاط والاحتكاك هنا ولا يقر هناك جنوباً في اليمن؟!
ثم قول الفارابي: “وأخذت قريش عن بعض الطائيين” إن هذا لشيء عجاب!، فهل كان لطيء لغتان في إطار القبيلة الواحدة مع أن القبيلة لا تعدو عن كونها بعض مئات إن لم يكونوا عشرات من البشر، وكيف تنزلت عليهم اللغة بذلك الشكل؟!
ثم إن القبائل المذكورة كانت لغتهم العربية ولم يكن لهم لغة غيرها وما ذكر عن لغاتهم ليس إلا قصد لهجاتهم؛ إذ ليس لكل قبيلة لغة بل لكل قبيلة لهجتها؛ فاللغة أعم وأشمل تنبثق عنها اللهجات وليس العكس، ومرتكزات اللغة من حروف وألفاظ ومعانٍ وخصائص التي تكون مستقلة بذاتها غير مرتكزات اللهجة؛ فاللهجات المختلفة تحمل العوامل المشتركة من حروف وأعدادها وتختلف فقط في ضبط أواخرها من التحريك والتسكين والتقييد واختلاف المعاني فقط.
كما أنه معلوم أن اللغة الفصحى لم تتكون إلا قبل الإسلام بمراحل قليلة وليست ضاربة جذورها في أعماق الزمن الغابر.
وفي “فتح الباري” – 9: 9: قال القاضي أبو بكر بن الباقلانيُّ: معنى قول عثمان: نزل القرآنُ بلسان قريش، أي: معظمُه، وأنه لم تقم دلالة قاطعةُ على أنَّ جميعَه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله – تعالى – {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة، أو هما دون اليمن، أو قريشاً دون غيرها فعليه البيان؛ لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولاً واحداً.
والقول أن القرآن نزل بلغة قريش فيه تعصب قبلي مناطقي ساد أيام الأمويين والعباسيين في إطار بيئة عامة سادتها التجاذبات العصبية بين المضرية والقحطانية ثم القرشية والحجازية والبصرية والكوفية والبغدادية...وغيرها.
وهكذا لم يسلم حتى القرآن الكريم من جره إلى التجاذبات العصبية التي سادت تلك الفترة.
2 - كذلك من الأسباب التي جعلت اللغويين لا يأخذون لغة اليمن كمصدر من مصادر الاستشهاد والاستدلال، قول أبي عمرو بن العلاء السابق “ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم كعربيتنا” فطارت في الآفاق وجعلها اللغويون كأنها قرآن لا يجوز مخالفته.
حتى جاء طه حسين وكرس هذا المفهوم، وعلى نهجهما سار اللغويون المحدثون والمستشرقون لمكانتيهما الاعتبارية في اللغة والأدب العربيين.
3 - كما أن بعض علماء اللغة العرب كانوا يصطنعون بعض المقاييس لتفصيل القول فيما هو من لسان العرب وما ليس بلسانهم، ومن ذلك مثلاً قول الخليل بن أحمد في المقلوب من الألفاظ وما اختلفت دلالته لتغيير حركة حرف أو حركة حرف وزيادة حرف والأصل واحد بين اللفظتين، فمثلاً نص الخليل على أن “العلّوش”: الذئب بلغة حمير، وأكد أنها مخالفة لكلام العرب لأن الشينات كلها قبل اللام(28).
فهل هناك قواعد معرفية في اللغة العربية ترتب الحروف ترتيباً يجعل بعضها مقتصراً بمكان لا يتجاوزه إلى غيره كالمثل السابق؟!..بمعنى هل أن من القواعد أن لا يسبق اللام الشين والعكس هو الصحيح أن حرف الشين هو الذي يسبق دائماً سواء كان بلغة مضر أو لغة قحطان؟ً!
وتضاربت استدلالات بعض اللغويين في الأمثلة وتسمية بعض الأشياء كما قالوا عند اليمنيين ولم يتفقوا عليها.
فالخليل قال إن اليمنيين يسمون الذئب “علوشاً”، والدكتور إبراهيم أنيس قال إن اليمنيين يسمون الذئب “قلوباً” وساق بيتين من الشعر قال إنها لأحد الشعراء الحميريين، هما:
أيا جحمتا بكي على أم واهب أكيلة قلوب ببعض المذانب
فلم يبق منها غير شط عجانها وشنترة منها وإحدى الذوائب
أليس هذا تضارباً في الاستدلال مما يجعله تقوّلاً وتجنياً على لغة أهل اليمن؟
كما قالوا إن الشعر لم يعرفه اليمنيون قديماً ولم تعرفه إلا القبائل التي أخذت عنها اللغة ولم تبتكره إلا قبل مجيء الإسلام بزمن قليل، فكيف لم يعرف اليمنيون فن الشعر وهنا يسوقون بعض الأمثلة من الشعر قالوا بأنها لشعراء حميريين؟!
ثم إن هذا المثل ليس قاعدة مطردة نقيس عليها كل ألفاظ اللغات اليمنية ونعممها على التقعيد على أنها من مقاييس اللغة.
4 - ولقد أضاف بعض المؤرخين سبباً إلى الأسباب السابقة وهو الصراع القبلي (الأنساب) بين اليمنية (القحطانية) والمضرية (العدنانية) الذي كانت دوافعه سياسية في أيام الدولة الأموية ثم تغلغل في بدايات الدولة العباسية، فصار التنافس بين الفريقين في كل شيء حتى تعداه إلى إنكار عربية كل طرف للآخر واحتكارها لنفسه مقسمين العرب إلى عرب عاربة وعرب مستعربة وهي نظرية تجد اليوم الكثير من النقد والقول بعدم صحتها، خاصة ولم نجد ما يسند ذلك التقسيم العربي إلى عدنانية وقحطانية في لغة النقوش المدونة على المسلات والجدر والحجارة، وغيرها، وحتى لم نجده في عرب الجاهلية بعد الميلاد أو قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم-، وهو صراع ابتدعه السياسيون المتأخرون لعصر صدر الإسلام مع العصر الأموي، وابتدعه المؤرخون والنسابون للاستفادة منه في ترجيح كفة على أخرى وكسب العون والمدد من هذه الفئة أو تلك..والمفاضلة بين القبائل؛ حتى وصل أن امتد الأمر إلى العلم والعلماء وتأثروا بهذا الداء العضال وأقحموه كل المجالات؛ السياسية والأدبية واللغوية والتاريخية والأنساب وغيرها.
5 - كما أن هناك سبباً آخر ذكره بعض المؤرخين أيضاً أشبه بالسابق وهو تقسيم العرب إلى طبقتين رئيسيتين - كما هو عند اللغويين - : طبقة البدو من الأعراب (أهل الوبر) من جهة، وطبقة العرب المستقرين (أهل المدر) من جهة ثانية، لا سيما وأن النسابين قد حشروا غالبية قبائل العرب المستقرة من سكان الحواضر في النسب القحطاني (اليمن)، وغالبية القبائل البدوية في النسب العدناني (القبائل الشمالية)(29).
6 - التدليس عند بعض اللغويين فيما ينسبونه إلى اليمن من اللغة كما قال به أحمد بن فارس في “معجم مقاييس اللغة” متهماً ابن دريد في ذلك.
7 - ويضيف الدكتور إبراهيم السامرائي سبباً آخر وهو الوضع وعدم الإلمام الحسن في نسبة الظواهر اللغوية إلى أهلها، خاصة وقد ساد الوضع والتزيد طائفة من المعارف القديمة في الأدب والتاريخ والحديث وغيرها(30).
وعجباً لهؤلاء اللغويين الذين يقرون بلغة اليمن متى ما وقعوا في مأزق من استدلال ولا يقرونها في مواطن كثيرة. في حين أقر اللغويون حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم- باللهجة التهامية “ليس من امبر امصيام في امسفر”، وهي لهجة يمنية خالصة اقتصرت على تهامة اليمن.
إنني أزعم أن الألفاظ اليمانية في القرآن الكريم أكثر دقة وإيضاحاً للمعنى واختياراً للصورة الدقيقة من تلك المعاني التي ساقها المفسرون على اللغة العربية الفصحى (الشمالية)..فإذا كانت كثيرٌ من الألفاظ العربية التي قيلت أنها شمالية حين استخدامها كإيضاح للمعنى في تفسير اللفظ القرآني إنما تفسر للازمة من لوازم تلك المعاني بعدما استعيرت مجازاً لعلاقة ما بينها وما يمكن أن يكون معنى للفظ القرآني، مثل تعميم المعنى (الغنيمة) على الفيء والنفل وما شابه مع وجود فوارق في واقع الحال التي يستخدم فيها لفظ “الفيء” و”الغنيمة” و”النفل”.
ولنحاكم مثلاً بعض تلك الألفاظ اليمانية في القرآن الكريم:
1 - اللفظ “أنفال” في قوله تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ”(31). قال المفسرون “الأنفال” (الغنائم) بعموم اللفظ والإطلاق دون تقييد. وقال بعضهم هي الغنائم تؤخذ قبل المعركة من غير قتال، كما ورد في تفسير ابن كثير.
وفي لسان العرب، “النفل”: بالتحريك الغنيمة والهبة، قال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل
والجمع أنفال ونفال، قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
وقد علمت فهم عند اللقاء بأنهم لك كانوا نِفالا
ونفّله نفلاً وأنفله إياه ونَفَلَه، بالتخفيف، ونفَّلتُ فلاناً تنفيلاً، أعطيته نفَلاً وغنما.
وقال شمر: أنفلتُ فلاناً ونفلته أعطيته نافلة من المعروف. ونفَّلته، سوغت له ما غنم”(32).
أما في لغة اليمن كما وردت في النقوش القديمة “الأنفال” ما سقط في أرض المعركة، فهو مقيد في إطار المعركة وأرضها دون التعدي إلى غير ذلك. وفي هذا التقييد حكمة بالغة حتى لا تسول للمقاتلين أنفسهم فيستبيحوا أموال الناس بحجة الغنيمة والفيء، كما عرف في تاريخ الحروب المختلفة. وإلا لكان ورد اللفظ بمرادف آخر مثلاً كأن يكون قال:”يسألونك عن الفيء” مثلاً كما في بعض القراءات التي تقول بإبدال الألفاظ أو القراءة بالمعنى.
لكن اللفظ نقل أدق معنى وأضيق حكماً، وهو من الزيادة كما جاء في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}(33)، أي زيادة عن المسؤول، كما قال المفسرون. و”النفل” كما هو منطوق اليوم في لهجة تعز هو ما تساقط من زيادة الشيء ونحوه، يقال “نفلت الثمرة” إذا نضجت فتساقطت.
2 - اللفظ “حبط” كما عند المفسرين واللغويين بمعنى (بطل ثوابه)، وفي الصحاح: “الحبط” بفتحتين أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطنها عن أكل الذرق. وفي الحديث: “وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم”(34).
أما حبط في اللغة اليمنية فيعني (حِمى). وهو من الأرض المحمية غير الشائعة أحيط بها.
3 - “يرتع” في قوله تعالى: “ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ”(35)، وهو عند بعض المفسرين كابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم يعني “ينشط”. وفي بعض اللغات اليمنية يعني (يحرس، يرتب).
وسياق الآية من حالة إخوة يوسف من الرعي والعمل يدل على الحراسة والترتيب لا النشاط، وبالتالي فهو إلى اللغة اليمنية أقرب من كلمة ينشط؛ لأن يلعب في الآية مرادف لينشط ولا يستخدم التكرار بلفظين مترادفين ومتتابعين ومتجاورين في القرآن الكريم. وفي اللغة القتبانية يعني (يأكل من خيرات الأرض وشجرها) وهو يناسب أيضاً حالة إخوة يوسف في اللعب والتنزه والأكل من خيرات الشجر.
4 - “بادٍ” في قوله تعالى: {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}(36). والباد عند المفسرين الشائع العام وهو عكس “العاكف” وهو المقيم.
وفي لغة أهل اليمن “الباد” هو الشائع غير المحروز ولا المحظور أي السبيل، يقال “الرجل بدى بأرضه وجعلها بدية” أي جعلها شائعة وسبيلاً. ومنه قوله تعالى: {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ}(37)، أي سائحون سائرون في القبائل.
5 - “عاقر” هي المرأة التي لا تلد كما جاء في قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}(38).
والعقر لغة يمانية من لغة الأشعريين وهي لا تزال مستخدمة إلى اليوم في محافظة تعز، وتعني (الخراب والعطل) وعدم الفائدة وعكس “صالح”، يقال: “عقرت الشيء” أي أخربته وأتلفته. وعليه قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}(39).
6 - اللفظ {نُسْقِيكُمْ} كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}(40) قرئ على ضم أوله بلغة حمير. “قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال
وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شراباً أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته؛ قال ابن عزيز، وقد تقدم. وقرأت فرقة “تسقيكم” بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام. وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين؛ ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير”(41).
7 - “ركزا” في قوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} “في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي صوتاً عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا أعمالهم، وقيل حساً، قال ابن زيد وقيل “الركز” ما لا يفهم من صوت أو حركة. قال اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:
وتوجستْ ركزَ الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيسِ سقامُها
وقيل الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض، وكذلك الركز والركاز المال المدفون”(42).
وفي اللغة اليمنية “رَكز” بمعنى نصّب، أقام. يقال ركز زيدٌ عمرواً أي نصبه وأقامه. وكذلك غرز الشيء في التراب من عود أو رمح وغيره.
8 - “ضبحا” في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}(43) “أي الأفراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة؛ أي تعدو في سبيل الله فتضبح. قال قتادة: تضبح إذا عدت؛ أي تحمحم. وقال الفراء: الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدون. ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل: كانت تكعم لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم؛ فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة”(44). “قال ابن عباس، وعطاء ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والكلبي، وقتادة، والمقاتلان (2) ، وأبو العالية وغيرهم: هي الخيل العادية في سبيل الله عز وجل تَضْبَحُ، والضَّبْح: صوت أجوافها إذا عَدَتْ.
قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوانات تضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيَّر حالها من تعب أو فزع، وهو من [قولهم] ضَبَحَتْهُ النارُ، إذا غيرَّت لونه”(45). “يقال ضبح الفرس : إذا عدا بشدّة، مأخوذ من الضبع ، وهو الدفع ، وكأن الحاء بدل من العين. قال أبو عبيدة، والمبرد: الضبح من إضباحها في السير ومنه قول عنترة:
والخيل تكدح في حياض الموت ضبحا .. ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، أي: ضابحات، أو ذوات ضبح، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف، أي: تضبح ضبحاً. وقيل الضبح: صوت حوافرها إذا عدت. وقال الفراء: الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت”(46).
أما الضبح في اللغة اليمنية فهو الضجر والشدة والكر في الشدة والحمل على الشيء. وكذلك الضبع: ضرب العدو ومهاجمته.
فحال سياق الآية “العاديات ضبحاً” يدل على الهجوم والشدة في العدْو؛ لأن وصف الآيات بعده يدل على الحال الذي يكون على إثر الهجوم وشدته من قدح شرارة سنابك الخيل (فالموريات قدحاً) والإغارة في الصباح وإثارة النقع من شدة العدو وتوسط الجمع...إلخ.
9 - “إصر” في قوله تعالى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا}(47). قال الطبري: “وقال أبو جعفر: “وأخذتم على ذلك إصري”؟ يقول: وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم =”إصري”. يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه”( 47).
وعند ابن كثير قال: “قال ابن عباس، ومجاهد، والربيع، وقتادة، والسدي: يعني عهدي.
وقال محمد بن إسحاق: {إصري} أي: ثقل ما حمّلْتم من عهدي، أي ميثاقي الشديد المؤكد”(48).
وقال البغوي في تفسير “إصراً” في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}(49)، أي عهداً ثقيلاً وميثاقاً لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة. يدل عليه قوله تعالى: {وأخذتم على ذلكم إصري}(50) أي عهدي، وقيل: معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود”(51).
والإصر في لسان العرب: “العهد الثقيل. وفي التنزيل {وأخذتم على ذلكم إصري}، وفيه: {ويضع عنهم إصرهم} وجمعه آصار لا يجاوز به أدنى العدد. قال أبو زيد: أخذت عليه إصراً، وأخذت منه إصراً، أي موثقاً من الله تعالى. قال الله عز وجل: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}. قال الفراء: الإصر العهد. وكذلك قال في قول الله عز وجل: {وأخذتم على ذلكم إصري}، قال الإصر ههنا إثم العقد والعهد إذا ضيعوه، كما شدد على بني إسرائيل”(52).
وفي لغة النقوش اليمنية: “إصري” بمعنى: حمى، حفظ، أعطى قراراً، حصل على قرار، طلب حماية، ضمن حماية، وحي. وهي معانٍ شاملة للعهود والمواثيق وحفظها واتخاذ القرار. وكما هو متسق مع سياق الآية، في شرح الله للأمم السابقة في الإيفاء في العهود والعقود واتخاذ القرارات اللازمة والمناسبة وتحمل تبعات مخالفتها. وكأن المعنى الأقرب والأدق إلى سياق الآية هو الميثاق والضمان، ويكاد يتفق المعنى في بقية الآيات الأخرى؛ في الآية السابقة “الميثاق والضمان”، وفي آية “ويضع عنهم إصرهم” أي ضمانهم، وفي آية: “ربنا ولا تحمل علينا إصراً” أي ضماناً بدليل الآية قبلها “ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به”.
10 - “تلّه” في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}(53)، قال ابن كثير في تفسيره:”{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه، ليكون أهون عليه، قال ابن عباس، ومجاهد (6) وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة: { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} : أكبه على وجهه”(54). وقال القرطبي: “قال قتادة: كبه وحول وجهه إلى القبلة”(55). وقال الطبري: “ (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي وصَرَعَه للجَبِيِن، والجبينان ما عن يمين الجبهة وعن شمالها، وللوجه جبينان، والجبهة بينهما”(56)، وكذا قاله البغوي.
وفي لسان العرب لا بن منظور “تلل” “تله يتله تلاً، فهو متلول وتليل: صرعه، وقيل: ألقاه على عنقه وخده، والأول أعلى، وبه فسر قوله تعالى: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، معنى تله: صرعه، كما تقول: كبه لوجهه. والتليل والمتلول: الصريع؛ وقال قتادة: تله للجبين: كبه لفيه وأخذ الشفرة، وتُل: إذا صرع”(57).
وفي اللغة اليمنية: “تلّ”: رفع، أخذ، يقال: زيد تلّ عمرواً، أي رفعه وحركه من موضعه إلى موضع آخر. وسياق الآية وحال إبراهيم وابنه إسماعيل يدلان على هذه الحركة والمعنى في اللغة اليمنية أقرب.
11 - “بسل” في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ}(58). قال معظم المفسرين أن “بسل” يعني أسلم، افتضح، عذب، قال ابن كثير: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي: لئلا تبسل. قال الضحاك عن ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، والحسن، والسُّدِّي: تبسل: تُسْلَم.
وقال الوالبي، عن ابن عباس: تفتضح. وقال قتادة: تُحْبَس. وقال مُرَّة وابن زيد تُؤاخذ. وقال الكلبيي: تُجَازَي، وكل هذه العبارات متقاربة في المعنى، وحاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب”(59).
وعند الطبري(60) قال: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:”أن تبسل نفس”.
فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة قوله:”أن تبسل نفس بما كسبت”، قال: تُسلم.
- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن:”أن تبسل نفس”، قال: أن تُسلم.
- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن، مثله.
- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:”أن تبسل”، قال: تسلم.
- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:”أن تبسل نفس”، قال: تسلم.
- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا ، أسلموا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس.
- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:”أن تبسل نفس”، قال: تؤخذ فتحبس .
- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
وفي لسان العرب “بسل”: بسل الرجل يبسلُ بسولاً، فهو باسلٌ وبسلٌ وبسيلٌ وتبسلا، كلاهما: عبس من الغضب أو الشجاعة، وأسدٌ باسلٌ. وتبسل لي فلان إذا رأيته كريه المنظر. وبسّل فلان وجهه تبسيلاً إذا كرّهه. وتبسل وجهه: كَرُهَت مرآتُه وفَظُعت؛ قال أبو ذؤيب يصف قبراً:
فكنت ذنوب البئر لما تبسلتْ وسربلتُ أكفاني ووسدتُ ساعدي
لما تبسلتُ أي كرهتُ؛ وقال كعب بن زهير:
إذا غلبته الكأس لا متعبسٌ حصورٌ ولا من دونها يتبسلُ(61)
وفي اللغة اليمنية “بسل” بمعنى: شوى، أحرق، طبخ، وهو أقرب إلى معنى سياق الآية من العذاب والتذكير بجهنم وحال الكفار في عذاب جهنم، ولعل اللغويين لم يعلموا بهذا المعنى في اللغة اليمنية، وكما ذكرنا أن تفسيراتهم لألفاظ القرآن الكريم أخذت من بعض اللغات الشمالية فقط.
وقد أشار صاحب اللسان إلى هذا المعنى بالقول الموجز: “وأبسل البُسرَ: طبخه وجففه”(62).
..... يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.