في كل عصور الشعر العربي كانت الإشارة إلى السُمرة والأسمر واضحة وقد تبدّت في نماذج كثيرة من الشعر العربي “الفصيح والعامي” وفي الشعر الغنائي أيضاً كان للأسمر حظ وافر من الوصف والغزل.. وطالما أن وجهتنا- كالعادة - الشعر الغنائي اليمني فلسنا بحاجة إذن لأن نعرّج على الشعر العربي ونصوصه الكثيرة التي تتغنى بالأسمر وبجاذبيته ورقّته, ذلك إننا اعتدنا أن نصول مع القارئ ونجول في ميدان الأغنية اليمنية الفسيح والواسع، فهي معين لا ينضب من الثراء وفيها دررٌ نفيسة من التنوّع الجمالي والفني والإبداعي.. لم يدع شعراء الأغنية اليمنية باباً إلا وطرقوه ولم يدعوا مساحة من فن الغناء الأصيل والراقي إلا وتربّعوا عليها من خلال نظم أعذب القصائد الغنائية وأرقها. تفوّقوا كثيراً في وصفهم فتركوا تراثاً حيّاً متجدداً سيظل على الدوام نابضاً بالأصالة، وأعتقد أن الباحث الفني في أي شأن من شئون الأغنية سيجد بغيته في الأغنية اليمنية, فقد اختزلت كل مقومات الأصالة وكانت ومازالت تعبيراً صادقاً عن كل حالات الإنسان العاطفية والوجدانية والإنسانية وعندما نفتّش عن الأسمر في الأغنية اليمنية فلسنا بحاجة إلى تقليب المراجع والكتب للحصول على النماذج التي نريدها.. ذلك أنها في وجدان وفم كل واحد منا، نردّدها في أحايين كثيرة نجتر منها ما يتناسب مع الحالة الوجدانية والعاطفية التي نعيشها . الأغنية اليمنية بنماذجها وألوانها العديدة أصبحت جزءاً لا يتجزأ منا وهي جزء لا غنى عنه في سلوكنا اليومي وفي علاقاتنا الإنسانية المختلفة.. الحديث عن الأغنية اليمنية شيّق وذو شجون لذا سنعود للحديث عما بدأناه ونورد نماذج من القصائد الغنائية التي تغنّت بالأسمر أو حتى مقاطع أو أبيات أشارت إلى الأسمر لنرى إذن ماذا قال شعراء الأغنية اليمنية عن الأسمر؟ ففي قصيدة الزين جزع مرة، التي غنّاها سالم بامدهف مقطع يقول:- ياحلو يا أسمر يا بو العيون السُود والمبسم الأحمر ريت الزمان يعود وفي أغنية (على أيش) التي كتب كلماتها د.محمد عبده غانم هناك مقطعان: يا أسمر يامليح قلبي منك جريح كم لي بعدك طريح تهجرني كذا ليش؟ يا أسمر ياكحيل نظرة تشفي العليل من زيّك لوتميل تهجرني كذا ليش؟ وفي أغنية “طاب السمر” للدكتور غانم أيضاً تأكيد على أن السَمرة الحقيقية المفعمة بالنشوة لا تكون إلا مع الأسمر فهو أقدر من سواه على خلق جو بهيج مليء بالسعادة والمتعة والانشراح، حتى أن وقت مسامرة الأسمر يمضي سريعاً على رغم ما يتخلّله من أنس ومتعة:- ما فيش كما السمرة لاهي مع الأسمر والزهر والخضرة والمي لامرمر ياعود ماوردي يافل نيساني لما تكون عندي مادريش بشيء ثاني غنّي وهات الكاس واعزف على الأوتار حسك تهم الناس والكيد والأخبار باسمر معك يااسمر لما يصبح الديك ياسعد من يسهر ليلة يطالع فيك وفي قصيدة “حميّمة “ التي يغنيها الفنان محمد حمود الحارثي وبعض شيوخ الأغنية التراثية مقطع يقول: أسمر تثنّى كالقضيب الأسمر حوري جِناني كالغزال الأحور قمر بدا لي كالقمر مصوّر وغاب عن عيني فصرتُ حيران وتعالوا أيضاً نتابع هذه المقاطع وأرجو أن لا يُفاجأ بعض القراء بكلمة “اخضر” التي تتردّد في بداية كل مقطع.. فالأخضر تعني الأسمر وعندما ترد هذه المفردة تُكسب المقطع أو النص الغنائي جوّاً أكثر شفافية ورقة:- أخضر لمه تبخل علي بوصلك أخضر سباني بهجتك وخصرك أخضر تماطل كم يكون مطلك أخضر سويدا مهجتي محلّك أخضر قليبي ذاب عليك وأمتا سأخضر أنا ما اعشق سواك في الناس سُكري بحبك لا بخمرة الكاس كلّك حلا. كلّك حلا بكُلّك أخضر لمه خضّرت لازَوِرْدَكْبلا زوردي قد نقشت خدّك أخضر بقلبي قد سكنت وحدك شاشق لك قلبي ترى محلّك وفي قصيدة غنائية للمحضار هناك مقطع يبحث فيه عن أسمر، بحث عنه طويلاً ولم يعثر عليه مع أن أوصافه جميلة ومن السهل العثور عليه فيقول:- سير واتخبّر ع مليح اسمر فارع القامة حالي المنظر دوّرت له في القور والبندر ما حد عطاني عنه أخبار عاده هناك أو سار ومن منا يستطيع أن ينسى روائع الدكتور. سعيد الشيباني وفرسان خليفة والتي منها:- صوّت المغني في صبر شجاني فهيّج الذكرى للأسمراني صبر تعز يا بسمة الحسانِ ما اقدر أنا جنبك أمرّ ساني أخضر صبر بنظرته طواني بلفتته وغمزته سباني بضحكته وبسمته شواني هُوْ منيتي يا ناس من زمانِ كما لا يفوتنا ونحن نتتبّع موقع الأسمر في الأغنية اليمينة أن نشير إلى روائع الفنان المبدع “أحمد يوسف الزبيدي” ففي إحدى أغانيه مقطع جميل يقول:- أسمر وأبيض كأنه لُول بحراني من الطبيعة بحُمرة صاغها الرحمن صادفت جاهل مكحل مفرقه ساني والثوب سهره مطرّز هكذا الفنان والمشكلة هي حين يتعلّق القلب بأبيض وأسمر لمن يُسلّم المحب قيادِه لهذا أم لذاك ومن منهما جدير بالتربّع على عرش قلبه؟، وماذا عسى شخص وقع في شراك الاثنين.. ماذا عساه أن يفعل؟، ولمن يسلّم قلبه؟ تعالوا نرى شاعر أغنية “القلب في حيرة” عبدالحليم حسين عامر ماذا صنع ؟ وكيف عالج هذه القصة العاطفية التي ترجمها غناءً الفنان الكبير أحمد يوسف الزبيدي. يقول:- القلب في حيرة ما بين حُب اثنين أعطي لمن قلبي وأعطي لمن ذي العين إن قلت للأسمر يا اسمر أنا أهواك يجوّب الأبيض با تروح مني فين وأن قلت للأبيض يا ابيض أنا أحبك يجوّب الأسمر خلّيك ليْ يازين يا ناس أنا محتار والعقل منّي طار كل السبب قلبي اللي عشق اثنين قلبي معك يا اسمر يا حالي المنظر القلب لك وحدك باسكّنك في العين وارجع وأقول يا أبيض يا بدر في ليلك أنت مني روحي وأنت حبيبي الزين بافضل أداريكم واسكن أراضيكم مالي غنى عنكم باحبّكم لثنين وفي الختام لابد أن نشير إلى أن ما أوردناه ما هو إلا قطرة من محيط عظيم نتمنى أن يكون قد صادف هوىً في نفس القارئ .. فالأغنية اليمنية بحر زاخر بألوان الجمال لا تُنقصه محاولة اغتراف كبيرة كانت أو صغيرة .. بقي أن أقول: إن ما عرضته في هذه التناولة هو اجترار من مخزون الذاكرة .. وإذا كنا قد وصلنا إلى هذه المحطة فوقوفنا فيها إجباري لأن ما عرضناه هو ما جادت به الذاكرة.