يقال إن الإبداع أشبه بالنهر يشق طريقه بنفسه، ولا يحتاج إلى من يحدد له وجهته في السير، وتصدق هذه المقولة على الإبداع الأصيل المتوهج النابع من تجربة خصبة قادرة على التفرد والتجاوز وذلك ما يتميز به الإبداع الشعري لدى البردوني الذي تمكن من تجاوز المحيط الجغرافي القطري ليمتد أنهاراً من الألق الإبداعي إلى الأقطار العربية، وربما كانت قصيدته التي ألقاها في مهرجان المربد في مدينة الموصل فاتحة لانطلاق الشعر والشاعر إلى الفضاء العربي حيث انعقدت المفارقة بين ما توقعه المشاركون في المهرجان حينما صعد إلى المنصة بهيئته المتواضعة، وبين ما قذفه في روعهم من تأثير ساحر، وسحر مؤثر بقصيدته التي وجهها إلى أبي تمام، في عقر داره، مدينة الموصل، أم الربيعين: ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب بيض الصفائح أهدى حين تحملها أيد إذا غلبت يعلو بها الغلب ماذا أحدّث عن صنعاء يا أبتي مليحة عاشقاها السل والجرب ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن ولم يمت في حشاها العشق والطرب لكنها رغم بخل الغيث ما برحت حبلى وفي بطنها قحطان أو كرب وقد كان لتلك القصيدة تأثير بالغ في الجمهور وفي مسيرة الشاعر مما حدا بالشاعر د. عبدالعزيز المقالح أن يسميها القصيدة “الضجة” لما أحدثته من ضجة كبيرة حول النص والشاعر على السواء ولم تكن تلك الضجة مقتصرة على المستوى الإعلامي السطحي والتأثير الآني المحدود بل امتدت إلى الجامعات لتتبلور بحوثاً علمية رصينة في الجامعات العراقية ولا سيما جامعة الموصل إذ كتبت فيها 3رسائل ماجستير في سنوات قليلة. الصورة في شعر البردوني والسخرية في شعر البردوني والحوار في شعر البردوني أما الباحثون اليمنيون في الجامعات العراقية عموماً فقد كتبوا رسائل شتى تناولت شعره ونقده. وفي دمشق كتب الأستاذ الدكتور وليد مشوح عن أثر العمى في تشكيل الصورة عند البردوني وطبعت في كتاب باسم الصورة في شعر البردوني. وفي مصر كتبت عددا من الرسائل عن الشاعر عبد الله البردوني. وإن كان اهتمام الأقطار العربية في إطار المشرق العربي بالشاعر البردوني واحتفائها بشعره – جلياً- فإن المغرب العربي على الرغم من ضعف التواصل مع المشرق بالشكل الكافي لم يكن بعيداً عن الاحتفاء بشعر البردوني، الذي تسلل متجاوزاً المسافات إلى دفاتر المبدعين وعناوين الباحثين، وقد أثار اهتمامي أثناء مشاركتي في عكاظية الجزائر قبل سنوات مدى الحظوة التي يلقاها شعر البردوني إذ دار حوار بيني وبين أول أستاذ جامعي التقيته في تلك المناسبة وأخبرني بأنه أشرف على رسالة ماجستير بعنوان الأشياء في شعر البردوني، كما أن أحد الزملاء اليمنيين الدارسين في الجامعات الجزائرية ناقش رسالة الدكتوراه عن شعر البردوني، وهو الباحث رشاد الصبري فضلاً عن: تأثر عدد كبير من الأدباء بشعر البردوني وحفظهم لمقاطع أو قصائد من شعره وقد هالني عدد كبير من الشعراء والنقاد باستظهارهم مقطوعات منتخبات من شعر البردوني. وهكذا يظل البردوني سفيراً مرتحلاً في الذاكرة الشعرية وغيمة تعشب في كل أفق، ورياحاً مرسلة لواقح للمواهب الإبداعية، لا تؤمن بالجغرافيا ولا تعترف بأطر التاريخ. عالماً متجدداً... أشبه بطائر الفينيق الذي يبزغ من رماده. و سندباداً قلقاً.. لا ينتهي من رحلة حتى يبدأ رحلة جديدة بيد أنه لا يحط الرحال. قصيدة نابضة بالإشراق والتوهج، وكتاباً يغري بالقراءة والتأمل.