مِن مكانٍ ما شَرقَ الأَرضِ أَنظُرُ إليكَ الآن. كم تبدو مُثيرًا للشَّفقةِ والتّوَجُّس مِن بعيدٍ أيها اليمنُ! كم هو مؤذٍ وباعِثٌ للقَرَفِ مَشهَدُ أبنائك الذين يتنازعونك من كلِّ الجهات كم هو مُخجلٌ إلى حَدِّ الوجع ذلك الصراعُ المَحمومُ والمُتجذِّرُ على ما تبقَّى مِن لِحافِك, وأسنانِك المعدنيةِ, وخاتَمِكَ العَقِيق “خاتمِ الأبوَّة”. إنهم يتقاذَفونَ بالكلامِ والجُثَثِ أمامَكَ ومِن خَلفِك إنهم يتشاتمون.. ووَحدَكَ مُلتقى الشتائمِ والنَّكَد.. مِن مكانٍ ما شَرق الأرضِ أَكتبُ إليكَ الآن: تنهّدتُ كثيرًا, وغَشِيَتنِي الرّجفة وأنا أغادِرُ عنك, لم أكن أتخيَّلُ أني أحبك إلى هذا الحَد، الحَدِّ الذي جعلني ألتَفِت إلى الوراء وأتساءل كالولد الوحيدِ لِأبيه: كيف لي أن أترُكَ هذا المسكين هنا وعليه كل هذه الحروق وهذه الأكوام من العُقُوقِ والجَفَاء.. وأُغَادِر؟! كيف لي أن أتخلّى عنه في هذا الظرف وهو يَتَرَنَّحُ ويُرجِعُ البصر كَرَّتَينِ إلى كل الجهات، دون أن يَلُوحُ في الأفق البعيد أحدٌ لِيَمنَعَ عنه ما يلقاه أو يُلقِيَ عليه السلامَ, ولو من باب الأجر..؟! كم أنتَ حبيبٌ وكبيرٌ وكثير يا وطني.. ولكن في نفوسنا نحن معشر المسحوقين الذين رفضنا أن نكون في صف هذا أو ذاك في حرب استنزافك ونضوبك, وبقينا مكتوفيّ الأيدي مُكتَفِين بشمعة أمل ودمعة خذلان. نحبك.. ولا ندري لماذا نحبك؛ ربما لأننا مشاريعُ صراعٍ جديدٍ سيأتي على ما تبقى منك كما زعم و يزعم عاشقوك أو لأننا وأنت توزّعُ تركتك بين اللصوص وقطّاع الطرق آثَرتَنَا بهذا الحبِّ وهذا البِرّ فقلنا: رَضِينا، رَضِينا. مِن مكانٍ ما بَعيدٍ عنك أُسِرُّ إليك: كُنتُ غارقًا بالوَهمِ حَدَّ السذاجة حينما اعتقدتُ أنني لابد وأن أبتعد قليلًا عنك, لكي أنفضَ عن روحي قليلاً من الغبار الذي تكوّم عليها على مدى خمسة أعوام نَزَفتُ فيها ما لا يُحصى من القصائد وما لا يُصدَّقُ من القهر والأسى. كنتُ مغفلاً جدًّا وأنا أترك أقلامي لديك وأوراقي زاعماً أني ذاهبٌ للترويح عن روحي بعد أن شَعَرتُ أني بدأت بأكلِ عمري بملعقةٍ كبيرةٍ! أدري أنك لم تقرأ لي حرفًا قَط، وربما لم تسمع بي, ولست ألُومُك في هذا؛ إذ كيفَ لِمُحَاطٍ مثلك بكل هذه الجَلَبَةِ والغُبار والبارودِ أن يستفيق على صوت قصيدةٍ أو ينام على أصابع عازفٍ أو تنهيدةِ عاشق..؟! مِن مكانٍ ما لا يُشبهُك أهمِسُ في أذنك: لقد تأخرتَ كثيرًا يا وطني، تأخرتَ كثيراً, والأدهى من ذلك أنهم مازالوا يشدونك إلى الوراء! كم تمنيتُ وأنا أُطِلُّ الآن مِن هذا المكان الشاهق والمُحاطِ بكلِّ أسباب وألوان السعادة والهدوء كم تمنّيت لو كنت معي, ليس لأنك في أمَسِّ الحاجة إلى هذه الراحة, ربما أكثر مني, لكن لكي تصدقني ولو لمرةٍ واحدة أنك تأخرت.. تأخرتَ كثيراً. كم تمنيتُ وأنا أُحَمْلِقُ في الأفق البعيد هناك أن تشعر ولو لمرة واحدة بالغُربة المُرَّةِ التي يتجرعها أبناؤكَ, أولئك الذين أُرغِمُوا على فراقك لكي يعيشوا, يعيشوا فقط, بعد أن أحاط بك كل هؤلاء وضَرَبوا حولك سياجاً من اليأس والنَّكدِ مانِعِين ملايين الناس ممن يُكِنُّونَ لك كل الحب من الاقترابِ منك والسلامِ عليك. لقد غادر أغلبُ مُحبيك يا وطني, غادروا حاملين حبهم الصادقَ وأملَهم المتبقّي بعودتك إليهم وعودتهم إليك, لعلك لم تشاهد بعضهم ذات مساءٍ وهم يلتَحِفُونَ بك ويهتفون لك بالفداء والولاء من على المدرجات, لكني رأيت وسمعت, وأدركت أنك لست ضعيفاً ولا وحيداً, كل ما ينقصك هو أن تُريد.. أن تريد فقط. من مكانٍ ما - شرق الأرضِ, بعيدٍ عنكَ, ولا يُشبهك - أحبّك. كوالالمبور