كان المناضل والفدائي الراحل صالح عوض الطحس أحد الذين لهم باع طويل في مرحلة الكفاح المسلح إبان الاحتلال البريطاني لمدينة عدن وما سميت بالمحميات، شارك الثوار في العديد من المهام القتالية والعمليات الفدائية والهجمات المسلحة على دوريات جنود الاحتلال في الشوارع ومواقع الثكنات العسكرية في جميع أنحاء مدينة عدن الباسلة، وبالذات في منطقة التواهي حيث يتواجد مركز القوات البريطانية وإدارتها.تولى المناضل الراحل مهام عديدة وساهم بصورة فعالة في تمرير ونقل السلاح وتسهيل تنقلات وتحركات الثوار الذين اعتمدوا عليه في كثير من الأمور وذلك بواسطة سيارات (البوليس) التي كانت بحوزته باعتباره أحد أفراد بوليس مستعمرة عدن، وكان من أبرز هؤلاء الثوار الرئيس الراحل المناضل سالم ربيع علي (سالمين). بيته استراحة للثوار ومنطلق عملياتهم كان منزله الكائن في حي بندر جديد بالتواهي ملاذاً للفدائيين المطاردين من قبل قوات الاحتلال ومخبأ للأسلحة ومكاناً ينطلق منه منفذو العمليات العسكرية، وكان الراحل صالح الطحس أحدهم فهو يمتاز بالجرأة والشجاعة وسرعة البديهة والذكاء الحاد والتواضع الجم علاوة على ميله للمرح وتميزه بنشاطات اجتماعية متعددة وعلاقات طيبة وواسعة مع مختلف شرائح مجتمع عدن. سيرته الذاتية من مواليد 28 أكتوبر عام 1946م في حي بندر جديد بالتواهي، ذات الحي الذي نشأ وترعرع فيه وما زالت أسرته تسكنه، التحق بالتعليم الابتدائي القديم بالمدرسة الحكومية ثم واصل دراسته بالمدرسة المتوسطة، ترك الدراسة فور إكمال الثالث متوسط حسب النظام التعليمي السائد حينذاك (السابع أساسي حالياً) بسبب ظروف والده المادية الذي كان يعول أسرة كثيرة العدد تقتات من بيع حليب الأبقار الطازج ،التحق وهو في الثامنة عشرة من العمر بالسلك الأمني المسمى (البوليس) التابع للتاج البريطاني، وكان هذا العمل فرصة أتاحت له الأجواء ومهدت له الطريق للالتحاق في صفوف الفدائيين، وتوفي أوائل عام 2012 م. ثورات أججت المشاعر الوطنية أنباء الثورتين المصرية والجزائرية والثورة ضد الإمامة في صنعاء وثورة أكتوبر التي انطلقت من ردفان أججت لديه المشاعر والوجدان ودفعته ومجموعة من زملائه وأصدقائه إلى التطلع إلى المشاركة في مقارعة المستعمر في عقر تواجده في عدن، ومثّل التحاقه عام 1964م في سلك البوليس المحطة الأولى من مراحله الكفاحية في صفوف المقاومة المسلحة ، ففي نهاية العام ذاته التحق بمدرسة معسكر تدريب الشرطة حيث التقى بمدرب وطني تحرري يدعى (منصور سيف مشعل) أذكى روح الحماس الثوري وغرس القيم الوطنية التحررية لدى الدارسين وحاول التعرف على ميول تلاميذه ومدى استجابتهم لأفكاره الثورية واستعدادهم لبذل الغالي والنفيس في سبيل تحرير الوطن، وكان حريصاً على انتقاء بعض المتدربين والالتقاء بهم في غير أوقات التدريس والتدريب لشرح المفاهيم والأفكار الوطنية الثورية والقومية العربية، وكان المناضل صالح الطحس أحد هؤلاء الذين تشربوا على يديه المفاهيم الثورية، وقد عرف بسرعة بديهته هذا لم يكن إلاّ جس نبض واختبار للأفراد الأمنيين المتدربين الذين يقع عليهم الاختيار لاستقطابهم تتبعها خطوات تجاه من يتم فرزهم وإلحاقهم بأشخاص آخرين يتولون إنجاز مهمة التهيئة والاستقطاب الفعلي من أجل العمل الفدائي. المحطة الأولى بعد انتهائه من الاشتراك في الدورة التدريبية تم تعيينه شرطي في (التواهي) منطقة سكنه ومسقط رأسه، وجرى بعد فترة قصيرة استدعاؤه من قبل المناضل الشهيد سالم عمر المسؤول التنظيمي للجبهة القومية في المنطقة ومعه المناضل عبدالحكيم الشرعبي (قائد صالح) والمناضل عبدالرحمن هزاع، وجاء هذا الاستدعاء في أعقاب عمليات مراقبة لتحركاته وتصرفاته والتأكد من استعداده وصلاحيته عسكرياً ونفسياً وأيضاً مستوى قدراته في خوض تجربة العمل والواجب الوطني. وكانت أول خطوة مهمة أوكلت إليه نقل أسلحة على دراجة نارية من منطقة الشيخ عثمان إلى التواهي فقام بتنفيذها بنجاح ولم يواجه أي مشكلة كون مروره من النقاط العسكرية للجنود البريطانيين على الطريق تمت دون تفتيش باعتباره من أفراد البوليس (الشرطة).. وتكررت هذه المهمة مرات عديدة ونفذ مهمات مماثلة إلى نادي الانتصار بمنطقة (القلوعة) وإلى منزل المناضل صالح العوذلي وإلى (صندقة صرواح) بحي (البنجسار) بالتواهي وإلى محمد اليافعي الذي كان أحد ضباط البوليس المشهورين والمشهود لهم بالإخلاص للوطن. هكذا ومن خلال تلك العمليات ومهمات نقل الأسلحة تحوّل بيته إلى مخزن للأسلحة ومخبأ للفدائيين وملاذ لهم من مطاردات الاستخبارات التي لا يهدأ لها بال بعد كل عملية فدائية عسكرية ضد المحتل. المحطة الثانية بعد استقطاب واختبار نشاطه الوطني جرى ترتيب وضعه ضمن الخلايا الفدائية القتالية الميدانية (القطاع الفدائي) ومعه محمد حسين ضالعي ومحمد علي الهميش محمد عمر الشهري وآخرون .. وكان من ضمن عملياتهم الفدائية تنفيذ عمليتين لضرب المعسكرات البريطانية وكان أحد هذه المعسكرات يقع في مقر (الأمن السياسي حالياً) في التواهي، وكانوا في هذه العملية مجموعة من الفدائيين تضم عبدالحكيم الشرعبي (قائد صالح)، عبدالرحمن هزاع، سالم عمر، عبدالجبار مقبل (الجبرة)، صالح الزيزية، محمد حسين البيضاني، محمد عمر الشهري، محمد الهميش وصالح جدارة رجل المدفع كما كان يسمى لأنه أطلق قديفة بازوكا من جبل التوانك على الثكنة العسكرية المذكورة المقابلة للجبل وأصاب الهدف بدقة متناهية رغم بعد المسافة. وفي مهمة فدائية جرى تخطيطها اشترك مع المناضل الشهيد جميل بضرب نادي البحارة الذي يقع بجوار (وكالة الأنباء اليمنية سبأ فرع عدن حالياً) الذي كان يرتاده ضباط وجنود الاحتلال، والمهمة الأخرى هاجم دورية عسكرية بريطانية أمام عمارة الأدهل على الطريق الرئيسي العام، إضافة إلى مهمات قتالية عديدة لا يتسع المجال هنا لذكرها والخوض في تفاصيلها. صاحب العمامة القنبلة !. من ذكريات مسيرة المقاومة ومن المواقف الصعبة التي واجهها المناضل الراحل قصة استقباله للمناضل عبدالرب علي (مصطفى) أمام البنك البريطاني في التواهي (فرع البنك الأهلي حالياً) ومرافقته لإيصاله إلى بيت الثوار (بيت الطحس) وكان رابطاً يده بمشدة (عمامة).. وأثناء الطريق بجانب فندق امباسدور أوقفتهما دورية بريطانية للتفتيش فأبرز الطحس هويته العسكرية وتحدث مع الجنود باللغة الإنجليزية التي كان يجيدها وأبلغهم أنه وزميله المرافق له من رجال البوليس فسمحوا لهما بالمرور دون تفتيش.. وعند وصولهما إلى البيت اكتشف أن زميله كان يخفي تحت (العمامة) قنبلة يدوية لم يكن يعلم بها. رشاش صندقة صرواح الموقف الصعب الثاني حين نقل وزميله عبدالرحمن هزاع رشاشاً آلياً من (صندقة صرواح) في حي (البنجسار) إلى بيت الثوار مروراً بدرج جبل (الساعة) وهو طريق فرعي مرتفع لا تمر فيه السيارات فواجها جنود دورية بريطانية راجلة حينها نبه زميله بوجود الجنود وأشار إليه بوضع الرشاش في صندقة أغنام صادف وجودها بجانبهما دون أن يلاحظ جنود الدورية ذلك، ثم عاد الاثنان بعد انصراف الدورية لأخذ الرشاش. يوم الانتصار العظيم كان يوم الثلاثين من نوفمبر عام 1967 م، يوم جلاء ورحيل آخر جندي بريطاني من عدن عبر المطار والميناء يوماً عظيماً حسب مذكرات المناضل الراحل صالح الطحس وقال فيها: (اللسان يعجز عن وصف هذا الحدث الأغر ومدى مشاعر الفرح والبهجة التي غمرت قلوب الناس.. كان يوم فرح فاحت فيه عطور الحرية والانعتاق وشهدت فيه مدينة عدن احتفالات تبودلت فيها التهاني بهذا النصر العظيم وتضمنت الأهازيج والأغاني الوطنية والرقصات الشعبية في كل شوارعها). بعد الاستقلال الناجز عقب تحقيق الاستقلال انتقل الراحل للعمل في سلك شرطة المرور بحكم لياقته الجسدية وإتقانه لمهارات متعددة مثل إجادة قيادة السيارات والدراجات النارية ومهارات أخرى من ضمنها إجادته للغة الإنجليزية، وكان ضمن المختارين المشاركين في موكب مراسيم الرئاسة المرافق لرئيس الجمهورية وعند استقبال ومرافقة كبار الضيوف، وقد أعتبر ذلك استمراراً لواجبه الوطني لفترة ما قبل الاستقلال. صعوبات في طريق العمل واجه المناضل الراحل العديد من المشاكل أثناء تأدية واجباته الوظيفية بعد الاستقلال وفوجئ بكثرة وتكرار توقيفه عن العمل وإيقاف راتبه في تلك الفترة لأسباب واهية وتحت مسميات وتصنيفات سياسية شملته وشملت كثيراً من المناضلين غيره، فتارة يتم تصنيفه بأنه يميني وتارة يساري ومرة انتهازي وأخرى حيادي وما إلى ذلك من مصطلحات وتسميات.. لكنه يقول في مذكراته: (لم أكن مطلقاً أمثل أياً من هذه التصنيفات التي لا أساس لها من الصحة، وبالرغم من هذه العقبات والمعاناة فإني لم أعوّل عليها شيئاً وقد قمت بأداء واجباتي تجاه وطني بكل أمانة وإخلاص لكي أرضي خالقي وضميري). وماذا بعد؟.. عاش المناضل الراحل صالح الطحس العقدين الأخيرين من عمره متقاعداً وبراتب ضئيل لا يكفي متطلبات أسرته وبرتبة مساعد أول، ولا مقارنة مطلقاً بين وضعه ووضع من هم في سن أولاده وأحفاده من ناحية الرتبة والراتب.. لكن مثل هذه المسائل كما يقول: ولو أنها تترك في النفس غصّة، بالنسبة لمن بذل كل غال ونفيس في سبيل نصرة الوطن إلاّ أنها لم تؤثر بتاتاً على علاقتي بوطني ومحبتي له فقد تشرّبت من حياة المناضلين الشرفاء وتعلمت الكثير من الدروس والعبر وترسخت في نفسي القيم والمبادئ وحب التسامح، منطلقاً من مفهوم البيت الشعري (بلادي وإن جارت على عزيزة.. أهلي وإن جاروا عليّ كرام).. أرفعوا أيديكم معي تحية لهذا الرجل الفقيد وأدعو له بالمغفرة والرحمة. رابط المقال على فيس بوك