للروائيات والقاصات الإماراتيات حضور لافت، حتى إنهن نافسن الرجال فسبقنهم ليتربعن على عرش القصة والرواية . وسردهن في هذا المجال غلبت عليه الواقعية المشبعة بنكهة الجرأة والشجاعة منطلقات من الثقة بقدرة الأدب على التغيير الإيجابي والوعي بأهمية ألا تكون هنالك فجوة كبيرة بين النمو المادي والنمو الاجتماعي، بل يجب أن يعزز أحدهما الآخر . أول مجموعة قصصية وقعت في يدي لعائشة عبدالله هي "أوراق امرأة" طبعتها دار "الرقي" في بيروت، وفيها ست عشرة قصة، وباستثناء الأقصوصات التي تضمنها عنوان "أوراق" في آخر المجموعة، فإن أغلب القصص اتسمت بالواقعية من حيث الأسلوب، أما من حيث الدلالات فهناك مقاصد عدة بأبعاد اجتماعية ونفسية . شخصياتها نساء قويات ورافضات لتلك التقاليد الموروثة التي تحد من حق المرأة في التعبير عن ذاتها أو حقها في اختيار شريك العمر، وهن شجاعات يقفن بوجه الزمن وأقداره التي تختطف الولد أو الزوج على حين غرة . تقول في قصة "أيها البحر": "لا يمكنك إلا أن تعجب بتلك المرأة التي اختطف البحرُ منها زوجها، ولم تستسلم للحزن العارم، بل وقفت تحتضن أبناءها أمام البحر تتحداهُ بكل عنفوان المرأة الجلدة وتقول له: "زمجر . . زمجر أيها البحر . . . اصرخ . . . فلن تستطيع أن تحطم قارب أبنائي وترقده في حضنك العميق . . . أيها البحر ارفع راية الاستسلام، واحن رأسك أيتهاالأمواج . . ." لقد وجدت في أبنائها الأمل الذي يعوضها ما أخذته الأقدار منها، أجل لم تستسلم بل وقفت بكل شجاعة تتحدى وبيدها مفاتيح المستقبل أبناؤها ، وهكذا هي المرأة العربية التي ترى في أبنائها الاستثمار الأفضل للحياة، ربما هذا ما أرادت أن تشير إليه القاصة وهي دلالة وردت بشكل غير مباشر في سرد مباشر . أما أهم تجليات النص عند عائشة عبد الله في هذه المجموعة فنجدها عبر قصة واقعية، لكن المعالجة قد تبدو للوهلة الأولى غير واقعية ثم تتماهى مع الواقع لتشكل طفرة في التفكير الإبداعي لدى المرأة، كيف؟ "رحيل زوجة" قصة تتحدث عن العلاقة بين الزوجة وأم الزوج وهما في بيت واحد والقصة بتفاصيلها تبدو مغرقة في الواقعية، ولا جديد فيها سوى غرابة السعادة التي تحيط بزوجة الابن وهي تواجه نكد أم الزوج وصراخها وأوامرها وتنغيصاتها، سعادة داخلية رغم انسياب الدموع أحياناً . في هذا الجانب لا يبدو الأمر واقعياً فنحن نرى وعلى مر العصور من تاريخ المجتمع البشري أن "الكنة" تتضايق من سوء معاملة "الحماة" إذا كانت الحماة نكدية أو غيورة على ابنها، وهي السمة الغالبة في مجتمعاتنا العربية، ولهذا أسبابه الاجتماعية والثقافية، ولكن، نقف عند "ولكن" لنقول إن القاصة عائشة عبدالله أرادت أن تغيّر مسار التعامل التقليدي على عينة من الواقع بطريقة ابتكارية، فحين أدركت زوجة الابن في القصة أن التعامل بالمثل مع أم الزوج سيقلب البيت إلى جحيم، وأن تغيير سلوك الحماة من المستحيل مهما حاولت، قررت عندها أن تغيّر هي ما بداخلها . . أن تتعامل مع ذلك النكد بإدراك من يحب الحياة ويتعايش مع تفاصيلها الحلوة والمرة بإيجابية تامة . لقد استطاعت بطلة القصة أن تصور لنفسها جماليات الغضب والفاعلية التي تخلقها تصرفات أم الزوج في حيز المنزل المشترك، تلك الفاعلية الصاخبة التي تكسر روتين الحياة وصمت السكون القاتل تقول على لسان بطلة القصة "إن لسانها السليط وتعليقاتها اللاذعة جعلت مني طاهية بارعة، عرفت ذلك لأني رأيتها تلتهم طعامي بشراهة ولذة" . وتقول أيضاً "كم هي الحياة حلوةٌ ورائعةٌ معك أيتها العجوز، إن السعادة تغمرني وتجعلني بخفة نسيم الصباح ورقته، أنت مشعل هذا البيت وبهجته، ولكن لن أبوح لك بالسر الذي اكتشفته، حتى لا أفقد السعادة التي وجدتها بمناوشاتنا اليومية ومعاركنا المميتة لاكتساب قلب رجل"، قوة كبيرة في نفسها حولت الأسود إلى أبيض لمصلحة الطرفين، وحولت النكد إلى سعادة فأعطت روحها ما تستحقه من جائزة هي الارتياح لها ولغيرها . "اعترض اعتراض رجل"، هذا هو عنوان المجموعة القصصية الثانية التي بحوزتي للقاصة عائشة عبدالله الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، تتضمن ثماني عشرة قصة . بين هذه المجموعة، والمجموعة السابقة ثلاث سنوات، فهل طرأ تغير ما على كتابات هذه القاصة من حيث اللغة أو الأسلوب أو المقاصد والدلالات؟ في هذه المجموعة خففت عائشة من أسلوبها المباشر وحاولت استخدام بعض الأساليب التي استخدمتها سابقاً ووظفت الرمز بطريقة خدمت الفكرة وأظهرت تجلياتها الإنسانية، ففي قصة "عري" ترميز واضح إلى تكالب الإنسان على الحروب الطاحنة حتى يمسي وحيداً على الأرض، غريباً عن كل شيء، عارياً، حائراً كيف يداري عريه، لقد أوقع به الشيطان فخسر كل شيء، حتى الشجرة التي أراد أن يخصف من أوراقها ليستر عورته، رفضت ذلك . وها هي تجسد مرآه وحيداً على الأرض وتسخر منه قائلة "إنك الوحيد على هذه الأرض، لا أثر لأقدامك غير قدميك، ولا صدى لصوت غير صوتك، فارتح وامرح، الأرض لك وحدك، لن يزاحمك أحد على امتلاك ذرات التراب" . وما ذا يصنع في هذا العالم من دون بني جنسه؟ حتى آدم لم يخلقه الله وحيداً، بل خلق له حواء لتؤنسه ولكي يخلفان ذرية ويعمران الأرض . هناك أيضاً الغرائبية التي وردت في قصص عدة منها قصة "اعتراف" التي تتحدث عن ذلك الشاب الذي يكره الزهور ويضطر لاصطحاب والدته بسيارته إلى معرض للزهور، ولا تتغير عداوته للزهور إلا عندما أطلت فتاة بوجهها الجميل، بطولها الفارع وابتسامتها الساحرة، عند ذاك ضم شتلات والدته إلى صدره وأخذ يقبل أزهارها، صارخاً بأعلى صوته: "كم أنت جميلة ورائعة أيتها الأزهار" . أما قصة "صهيل الخيل" فقد كانت مشبعة بالرموز والدلالات بدءاً من البطل عنترة الذي يتماهى مع فوارس آخرين في أزمنة مختلفة "إنه هو واقف تحت الشجرة شاهراً سيفه الخشبي، يقاتل الفزاعات الواقفة في ساحة البيت الأبيض . . ." . "في البصرة شوهد عنترة يحمل سيفاً مصقولاً، غمده من ياقوت أحمر، يمتطي فرساً أسود كالليل، يضع على عينيه قناعاً أسود، تطير عباءته خلفه عندما يأتي مسرعاً لينقذ امرأة صرخت بأعلى صوتها منادية: وااااا عنتراه . . ." . قصة مكتنزة بالرموز والدلالات الحسية والذهنية، محورها الضياع الذي أصاب الفرسان ليس لنقص في فروسيتهم، ولكن لأن الزمن غير زمنهم، ولأن عبلة لاتزال في سجون الأعداء الصهاينة أسيرة، وأنها في بعض مضارب أهلها بردانة أو جائعة، وهو لا يستطيع أن يحارب زمنه بسيف من خشب . هموم فرسان هذا الزمان أثقل كثيراً من همومك يا عنترة، هذا ما أرادت عائشة أن تقوله: "ربط لجام فرسه حول جذع الشجرة العجوز، رمى بثقل جسده المتعب على جذعها الهرم، نام ملء جفنيه كأنه لم ينم منذ ألف عام . . . صرخت به الشجرة: ارحم جسدي العجوز، ارفع أثقال حزنك بعيداً عن كاهلي، فك القيود عن معصمي الهرم" . ذلك هو فارس الزمن الحالي المعبأ بهموم عصره، وتلك هي أمته التي حاول أن يستظل بها فشكت من ثقل همومه، وطالبته بأن يفك قيودها، وما أوجع تلك القيود من حروب وفرقة وجهل وتخلف . لقد تعاملت عائشة مع الرمز تعاملاً أعطاه أوج قوته، وشكلت منه محرضاً ودافعاً ومحفزاً من أجل الخلاص . ولعل قصة "صهيل الخيل" من أهم قصص المجموعة وهي الأطول من بينها، ولو اكتفت بعشر قصص معها في هذه المجموعة لما نقص من حضورها المتألق شيئاً .