يرد في سيرة البحتري أنه شاعر من العصر العباسي الثّاني، واسمه الوليد بن عبد الله، وكنيته أبو عبادة، ولقبه البُحتري نسبة إلى جدّه بحتر من قبيلة طيء . ولد في بلدة منبج من أعمال حلب في 821 ميلادية وفيها تلقى ثقافته واكتسب ملَكة البلاغة وصفاء اللّغة، تتلمذ على يدي أبي تمام في حمص، وحين أتقن البحتري صناعة الشِّعر، ذهب إلى العراق، وهناك لمعت شهرته فاتّصل بالخلفاء والوزراء وعظماء القوم، كما لازم المتوكّل وأصبح شاعر بلاطه، وقد مات في نهايات حكم المعتمد في بلده منبج عام 897 ميلادية . برع البحتري في الوصف وكتب فيه قصائد كثيرة، واشتهر بغزارة معانيه وضمت أشعاره الكثيرة الأغراض المعروفة مثل المدح والفخر والرثاء والهجاء والحكمة والوصف والغزل . من أشعاره الغزلية قصيدة بعنوان (أُخْفي هَوًى لكِ في الضلوع) التي وصفت بأنها من روائع ما كتب في الغزل العربي، وتعود قصة القصيدة إلى تلك الأطياف الصادرة عن حب متقد منذ مراهقته في منبج مع علوة الحلبية . إن وصف الحبيب عن البحتري استدعى منه أناقة شعرية تقوم مقام الصورة وجمال اللوحة المرسومة، وهذا يتبدى في هذه القصيدة التي تصور حالة العشق إذ يتسلل في ضلوعه، فيخفى ويظهر حتى تعرض للملامة من الآخرين، مما تبدى عليه من آثار هذا العشق نكاية عن صدود الحبيبة وهجرها، وفي القصيدة الكثير مما يفسر تلك الحالة، فمحبوبته "علوة" ظالمة لمعشوقها، سافرة في غيها وصدودها، الذي يلقي بظلاله على العاشق فلا يستفيق إلا وقد طال به النأي والانتظار . في القصيدة وصف للمحبوبة التي تمشي بدلال فتأسر القلوب وهي تتهادى بقدها المياس وعيونها الساحرة وخدودها النضرة المائلة إلى الحمرة . بهذه المقدمة التي يخصص البحتري جزءاً منها لوصف المحبوب، يذهب كما هو شأن القصيدة الطللية العربية التي تجيء على الديار وذكر المحبوب نحو مديح الخليفة أبو الفضل جعفر المتوكل الذي يظهر في القصيدة بأجمل الأوصاف، الذي زانه الملك حسناً ومهابة، فضاعف من قوته كأنه مصطفى بهذه الخلافة، وأكثر من ذلك فهو خليفة يجزل في العطاء الذي تعم أفضاله الأرض حتى يتساوى فيها الغني والفقير، لكأن الجبال تسير في عز ملكه، وحين يؤذن بالحرب تخال الجبال تشارك المحاربين الوغى فتصهل الخيل وتلمع السيوف وتزهر الأسنة، وهو خليفة له فصل القول والخطاب، بهي الطلعة تضيء جبهته الكروب والعثرات، وهو تقي وورع وخاشع يأتمر بشرع الدين وينتصر للاسلام، وهكذا تسلك القصيدة لتغدق على الخليفة من الصفات ما يجعله راسخاً في محبة الناس وأملا وجليل القدر في القلوب وكبيراً . أُخْفي هَوًى لكِ في الضّلوعِ، وأُظهِرُ وأُلامُ في كَمَدٍ عَلَيْكِ، وأُعْذَرُ وَأرَاكِ خُنتِ على النّوى مَنْ لَم يخُن عَهدَ الهَوَى، وَهجَرْتِ مَن لا يَهجُرُ وَطَلَبْتُ مِنْكِ مَوَدّةً لَمْ أُعْطَهَا إنّ المُعَنّى طالِبٌ لا يَظْفَرُ هَلْ دَينُ عَلْوَةَ يُستَطَاعُ، فيُقتَضَى أوْ ظُلْمُ عَلْوَةَ يَستَفيقُ فَيُقْصَرُ تَمشِي فَتَحكُمُ في القُلُوبِ بِدَلّها وَتَمِيسُ في ظِلّ الشّبابِ وَتَخطُرُ وَتَميلُ مِنْ لِينِ الصّبَى، فَيُقيمُها قَدٌّ يُؤنَّثُ تَارَةً، ويُذَكَّرُ إنّي، وإنْ جانَبْتُ بَعضَ بَطَالَتي وَتَوَهَّمَ الوَاشُونَ أنّيَ مُقْصِرُ لَيَشُوقُني سِحْرُ العُيُونِ المُجتَلَى وَيَرُوقُني وَرْدُ الخُدُودِ الأحْمَرُ أللهُ مَكّنَ، للخَليفَةِ جَعْفَرٍ مِلْكاً يُحَسّنُهُ الخَليفَةُ جَعفَرُ نُعْمَى مِنَ الله اصْطَفَاهُ بِفَضْلِها واللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَيَقْدُرُ فَاسْلَمْ، أميرَ المُؤمِنِينَ، وَلاَ تَزَلْ تُعْطَى الزّيادَةَ في البَقَاءِ وَتُشكَرُ عَمّتْ فَوَاضِلُكَ البَرِيّةَ، فالتَقَى فيها المُقِلُّ عَلى الغِنَى والمُكثِرُ بِالبِرّ صُمْتَ، وأنتَ أفضَلُ صَائِم وَبسُنّةِ الله الرّضِيّةِ تُفْطِرُ فَانْعَمْ بِيَوْمِ الفِطْرِ عَيْناً، إنّه يَوْمٌ أغَرُّ مِنَ الزّمَانِ مُشَهَّرُ أظهَرْتَ عِزّ المِلْكِ فيهِ بجَحْفَلٍ لَجِبٍ، يُحَاطُ الدّينُ فيهِ ويُنصَرُ خِلْنَا الجِبَالَ تَسِيرُ فيهِ، وقد غدتْ عُدَداً يَسِيرُ بها العَديدُ الأكْثَرُ فالخَيْلُ تَصْهَلُ، والفَوَارِسُ تدَّعي والبِيضُ تَلمَعُ، والأسِنّةُ تَزْهَرُ والأرْضُ خَاشِعَةٌ تَمِيدُ بِثِقْلِهَا والجَوُّ مُعتَكِرُ الجَوَانِبِ، أغْبَرُ والشّمسُ مَاتِعَةٌ، تَوَقَّدُ بالضّحَى طَوْراً، ويُطفِئُها العَجاجُ الأكدرُ حتّى طَلَعتَ بضَوْءِ وَجهِكَ فانجلت تِلكَ الدّجَى وانجابَ ذاكَ العِثْيَرُ وَرَنَا إلَيْكَ النّاظِرُونَ، فَإصْبَعٌ يُومَا إلَيكَ بِهَا،وعيْنٌ تَنظُرُ يَجِدونَ رُؤيَتَكَ،التي فَازوا بها مِنْ أنْعُمِ اللهِ التي لا تُكْفَرُ ذَكَرُوا بطَلْعَتِكَ النّبيَّ، فهَلّلُوا لَمّا طَلَعتَ من الصّفوفِ،وَكَبّرُوا حتّى انتَهَيْتَ إلى المُصَلّى،لابِسًا نُورَ الهدى، يَبدو عَلَيكَ وَيَظهَرُ ومَشَيتَ مِشيَةَ خاشعٍ مُتَوَاضِعٍ لله لا يُزْهَى، وَلا يَتَكَبّرُ فَلَوَ أنّ مُشتَاقَاً تَكَلّفَ غَيرَ مَا في وُسْعِهِ لَسَعَى إلَيكَ المِنْبَرُ أُيّدْتَ مِنْ فَصْلِ الخِطَابِ بِحِكْمَة تُنبي عَنِ الحَقّ المُبينِ وَتُخْبِرُ وَوَقَفْتَ في بُرْدِ النّبيّ، مَذَكِّرا بالله، تُنْذِرُ تَارَةً، وَتُبَشِّرُ وَمَوَاعِظٌ شَفَتِ الصّدُورَ مِنَ الذي يَعْتَادُها، وَشِفَاؤها مُتَعَذِّرُ حتّى لقَد عَلِمَ الجَهُولُ، وأخلَصَت نَفسُ المُرَوّى، واهتَدَى المُتَحَيّرُ