في الجزء الثاني من "مثنوي"، شاعر الصوفية الكبير، جلال الدّين الرومي، ترد حكاية رجل ميسور الحال، قد منح أربعة أشخاص مُعْدَمين، درهماً واحداً يتقاسمونه في ما بينهم . لقد كان الأربعة من جنسيات مختلفة: عربي، وفارسي، وتركي، ورومي . ولكن، في ثنايا كل واحد منهم، كانت هناك رغبة دفينة، أراد تحقيقها من وراء هذه الهِبَة الصغيرة، التي قد لا تذكر . فالأول أراد عنباً، والثاني أراد "أنكور"، والثالث أراد "أوزوم"، والرابع أراد "إستافيل" . 1 وبما أنهم كانوا يجهلون لغة بعضهم، وبما أنهم غير متسامحين، ولا يستخدمون لغة الإشارة حتّى، لإفهام وتفهم رغباتهم . فقد هبَّت عاصفة من الشدِّ والنزاع ما بينهم، بل إنهم وصلوا لدرجة الهياج والعراك بالأيادي، وتبادلوا الشتائم والتهديد بالقتل . إلاَّ ما فاتهم جميعاً، وطمس ضياء العقل فيهم؛ هو أنهم جميعاً كانوا، ومن دون أن يعلموا، يريدون شيئاً واحداً، رغبةً واحدةً، ثمرةً واحدةً، ألا وهي: العنب! فالأسماء الأجنبية التي جاءت على ألسنتهم أعلاه، وباللغات الأربع، كانت كلها تعني العنب، ولا شيء آخر سواه . حكاية الرومي هذه، ذات الدلالة الوافرة والحكمة الأقوى، تشي بأمرين مهمين: الأول، هو أن هناك رغبات متنازع عليها، رغبات برزت ببروز مسببها (المال) . فالمال إذاً، هو الذي جعلهم يفكرون بالعنب المُخْتَلَف عليه . أمّا الأمر الثاني، فهو أن المال لم يكن إلاّ سبباً لهذا الاختلاف؛ أي أنه لم يكن نتيجة بأي شكل من الأشكال . فلقد تعاركوا وتباغضوا في آخر الأمر، وهذه هي نتيجة ذلك السبب الصغير الذي أوصلهم لنقطة اللاتفاهم . 2 ولو نظرنا من زاوية مختلفة، فإننا سنلاحظ بأن هدف المُحْسِن الذي وهَبَ الأربعة درهمه، لم يكن من أجل أن يتناهشوا ويتقاتلوا وتسيل دماؤهم على الأرض السبخة هباء منثوراً، بل من أجل أن يتفكروا ويتبادلوا التحية ويتشاوروا ويتحابوا، ثم يقرروا السبيل الأمثل الذي يجعلهم يستفيدون من الدرهم، ويحققون به رغباتهم المشتركة . غير أن الأربعة، بجهلهم، وعنادهم، وأنانيتهم المريضة، أصروا على إرضاء بطونهم فقط، كل على حدة، ولم يخطر ببالهم أبداً، كيف يمكن لهم أن يتقاسموا شيئاً مشتركاً واحداً يرضيهم جميعاً، من دون أن يتركوا خسائر فادحة خلفهم، ومن دون أن يبنوا جداراً من البغضاء بينهم . إن الغائب إذاً، عن أذهان هؤلاء الرجال، لم يكن الفهم أو الحبّ أو النُبْل في الاختلاف فحسب، بل هو - وهذه هي الكارثة - غياب المعنى التواصلي ذاته في ما بينهم . أي غياب الجسر الموصل لفهم رغباتهم . فلقد ظهروا كالطرشان، الذين لا يفهم الواحد منهم لغة الآخر، أو ماذا يريد بالضبط . لهذا فهم أشبه بالصيادين الذين أرادوا اصطياد سمكة كبيرة، ولكنهم اختلفوا في طريقة اصطيادها، ففرت عنهم هاربة ولم يعثروا عليها أبداً . وهكذا، عادوا من رحلتهم، كأعداء متناحرين في قارب واحد! 3 إن فساد المعنى إذاً في الأمور المشتركة، يعني فساد الهدف أصلاً . كما أنه يعني، بأن طريقة المعالجة خاطئة، والدرب ضائع، والعيون عمياء، والرؤية غائبة، والإدراك معدوم، وأن المشروع كله مضروب من أساسه . إن امتحان المعنى الفاسد، الذي نوسع شاشته هنا قليلاً، دائما ما يأتي وما يترعرع في كنف المفسدين . فهذه الفئة من الناس، القليلة الذمة، الحرباوية، والانتهازية، والتآمرية، والأنانية، التي تدير أعمالها في الظلام، التي توجد في كل مكان؛ يشبهها الرومي ب"الفئران"، فالفأر مستقره التراب، لأنه يعرف الكثير من الطرق والخدع والالتواءات، ويبني له الكثير من المسارب تحت الأرض . ولأنه "لا هم لنَفْس الفأر، إلا مضغ اللُّقم" . ولكن بمجرد ما أن ينكشف لأحد، فإنه يقتل أو تلتهمه القطط السِّمان . لهذا فإن المعنى الفاسد، يعشعش دائماً في رأس الفاسدين والمفسدين، الكبار منهم والصغار، أولئك من يتطاول بعضهم على إفساد مجتمعات ودول بأسرها . فهؤلاء قد كبر معهم الفساد العقلي والروحي، وتشرَّبوا بالمكر والخبثنة، وتغذّوا بالدسائس والمكائد، وسُمِّنَوا بالاستغلال والانتهازية، وتشوه لديهم الضمير الوطني والإنساني . من هنا نقول: إن الفاسد ليس هو فقط، مَنْ يسرق ويحتال ويتلاعب بقوت الناس وينحط أخلاقياً؛ وإنمّا هو أيضاً مَنْ يخون مصالح شعبه وبلاده، ويضع العصا في دولاب مصيرهم ومستقبلهم، ويهدد سلامة حياتهم واستقرارهم، ويريد أن يفرض عليهم وصاياه وأجنداته، ويقوم باستغلالهم . إن فاسداً من هذا النوع، هو جرذ خائن مع مرتبة الخسّة والوضاعة! 4 عليه، فإن الرجال الأربعة، الذين أطلوا علينا من حكاية الرومي، قد بدوا بسطاء معدمين ومساكين في مسألة فساد المعنى والمفسدين؛ إذا ما قارناهم بنماذج أخرى في المسألة ذاتها . فهناك فئات لا تتعامل مع محسن بخيل من هذا النوع، بل هي التي تصنع فساد المعنى في الأساس، وعلى نطاق واسع أيضاً . وعليه، يمكننا أن نتحدث بهذا الصدد، عن فساد دولي معمم: دول، حكومات، أحزاب، تنظيمات سرية ومعلنة، شركات، مافيات، . .الخ . لذا فإن المعنى الفاسد، وإذا ما تشكل في محيط فاسد وقويت شوكته؛ فإن بإمكانه، إذا تُرك على عواهنه، أن يقود شعوباً، ودولاً إلى التهلكة . إذْ بإمكانه أن يرصّ الأذى فوق الأذى، والدجل فوق الدجل، والأنانية فوق الأنانية، والكذب فوق الكذب، والاستغلال فوق الاستغلال، والخراب فوق الخراب، والاحتراب فوق الاحتراب، هكذا، جنباً إلى جنب حتّى يكوم تلالاً من كل هذا، لمصلحته الشخصية أو لجماعته، ومن دون أن يعبأ بمصالح غيره أو وطنه أو يرف له جَفْن . 5 إن درس الرومي إذاً، في فساد المعنى والمفسدين، يدلنا من جانب آخر، إلى واحد من أهم الأسباب التي أدت إلى تشرذمنا، وتفكّكنا، وضعفنا، وخرابنا، وعداواتنا، وتخلفنا، التي تنهش الكيانات من الداخل وتضعضعها وتفقدها طاقاتها الحيوية . كما أننا نستشف منه، أسباب فشل الكثير من المشاريع الوحدوية والوطنية والتنموية والحياتية والمصيرية، في العالمين العربي والإسلامي، بدءاً من الأسرة والتعليم وانتهاء بالمناحي الأخرى للمجتمعات والدول . ولعل الإمارات، ومن دون مجاملات أو مزاودات تذكر، وبحسب المؤشرات والإحصاءات الدولية، ولما يلمسه كل من يقيم أو يفد على هذه الأرض الطيبة، من ترابط وطني واستقرار ونماء وتخطيط وأمن وأمان واهتمام قيادي وحكومي بمتطلبات الإنسان ورفاهيته، تعدّ واحدة من الاستثناءات العربية المهمة، اليوم، في هذا السياق، حيث تُسخر كل الإمكانات والثروات في بناء مستقبل الإنسان، وليس على العكس من ذلك . 6 إذن، إذا كان الوطن، هو المُحْسِن العظيم والروح الكبيرة، المحروسة من لدن جميع أبنائه، ضدّ كل فساد وتخريب واستغلال وتهديد؛ فإن الوطن هذا سيكون أشبه بالبحر الشاسع الرحابة؛ بحيث لا يمكن لبعض الأبقار النافقة أن تلوث أعماقه أو تسدّ المنافذ عليه . إنها روح الوطن، الزاخرة والمملوءة بالجواهر، التي تحوي ولا تفرِّق، تدرك ولا تستعدي، تهب ولا تبخل، تنصت ولا تتذمر، تعذر ولا تستغيب، تأمر ولا تجرح، تنفتح ولا تخاف، تسمو ولا تهان، تحضن ولا تهمل، تحمي ولا تترك رعاياها مطلقاً للفئران أو الذئاب . إنها روح الوطن، التي تكون فوق الشبهات، المفتوحة اليدين للجميع من دون استثناء: تساعدهم، تآخيهم، تقربهم ولا تنفرهم منها؛ بل إنها تدفعهم وتحرضهم بالحبّ نفسه وبالإصرار ذاته، إلى ارتياد المجاهيل واجتراح الأعاجيب، والقفز فرحاً - إن أمكن من القبور، إلى معانقتها واحتضانها . هكذا، يتصالح المعنى مع معناه، عندما يكون الوطن مُلتحماً وموحّداً، من ساسه إلى رأسه، ومن أطرافه إلى أطرافه .