الساحة اللبنانية من أقصاها إلى أقصاها، ظلت خلال الأسبوع المنصرم تحت وطأة تداعيات جريمة اغتيال رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي ضابط الأمن القدير، اللواء وسام الحسن خلال عملية تفجير مدوية في أحد الشوارع المكتظة بمنطقة الأشرفية شرق بيروت، لا بل إن عملية الاغتيال ستكون مفصلية تؤشر إلى ما بعدها . وهذا ما يسعى إلى تكريسه فريق 14 آذار الذي سارع إلى استثمار سياسي واسع وحشد وشحن لهذه الجريمة الوحشية، على نحو دفعه إلى رفع شعار بدا صعب المنال، وهو شعار إسقاط حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، تحت شعار أنها حكومة عاجزة تحمي القتلة، ومن ثم وعندما عجز عن ذلك بفعل تطورات عدة وبفعل رفض عارم لأي فراغ حكم أو سلطة في لبنان بادر إلى رفع شعار المقاطعة التامة أو الإضراب السياسي العام توطئة لترسيخ أزمة حكم خانقة تحاصر الحكومة والوضع السياسي برمته . بعد وقت قصير على ذيوع نبأ اغتيال اللواء الحسن شرعت قوى المعارضة في عملية تصعيد سياسية وعملية تعبئة وشحن على الأرض غير مسبوقة إذ وجه أركان هذا الفريق منفردين مباشرة أصابع الاتهام السياسي في اتجاه نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، انطلاقاً من أن الضابط المغدور اللواء الحسن تجرأ وكشف عن عمليات تخريب واسعة النطاق كان هذا النظام يهيئ لها في لبنان لزرع الفوضى ونشر التوتر والاقتتال من خلال كشفه عما صار يعرف في بيروت بعملية الوزير والنائب السابق ميشال سماحة التي ظهر فيها مباشرة اسم المسؤول الأمني السوري علي مملوك واسم المستشارة الإعلامية والسياسية في القصر الرئاسي السوري بثينة شعبان كمتورطين في دفع سماحة الى نقل متفجرات في سيارته من دمشق إلى بيروت تمهيداً لإدارة خلايا تخريب وتفجير تقوم بمهمات تؤدي إلى تفجير الوضع الهش أصلاً في لبنان . ثم اجتمع أركان قوى 14 آذار في بيت الوسط، أي دارة الرئيس سعد الحريري في الوسط التجاري لبيروت، وأصدروا بياناً عنوانه العريض والمباشر دعوة رئيس الحكومة ميقاتي إلى الرحيل مع حكومته فوراً من دون أي إبطاء، وحملوه بشكل غير مباشر تبعات عملية اغتيال رجل الظل القوي اللواء الحسن . وهكذا بدا جلياً أن قوى 14 آذار أرادت فرض أمر واقع سياسي جديد يقلب الأمور رأساً على عقب ويغير المعادلات السياسية المرسومة في بيروت، ويقيم معادلة جديدة فحواها إبعاد الأكثرية عن الحكم، وهي محاصرة بتهمة المسؤولية عن الظروف والمعطيات التي أدت إلى عملية اغتيال اللواء الحسن . وعلى الفور بادر الرئيس ميقاتي إلى الذهاب إلى القصر الرئاسي في بعبدا وعقد اجتماعاً مطولاً مع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان انتهى بما اعتبر لاحقاً تخريجة سياسية غايتها امتصاص تداعيات الاغتيال وترك الأمور إلى يوم تشييع جثمان الضابط الشهيد لمعرفة مسار الأمور وكشف طريقة تصرف الفريق الآخر . وعنوان هذه التخريجة أن ميقاتي في وارد النزول فعلاً عند مطلب الاستقالة من الحكم، ولكنه ترك أمر البت بهذه الاستقالة بيد رئيس الجمهورية الذي يتعين عليه أن يجري جولة اتصالات ومشاورات مع أقطاب طاولة الحوار الوطني الذين يمثلون ألوان الطيف السياسي اللبناني الموالي والمعارض على حد سواء . وهكذا ظهر الرئيس ميقاتي على شاشات التلفزة وكأنه في حالة إرباك وضعضعة معنوية، وأنه »قاب قوسين أو أدى من الاستسلام«، لقدرة الضغوط الشديدة الوطأة التي تمارس عليه، وسرت في أوساط فريق 14 آذار مقولة ان يكون مصير ميقاتي كمصير رئيس الوزراء الأسبق الرئيس عمر كرامي بعد أيام على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في شباط/فبراير عام ،2005 إذ سرعان ما أذعن للضغوط ولم يستطع الصمود فأعلن استقالته في مجلس النواب اللبناني واضعاً بذلك نقطة البداية لسقوط تدريجي لتركيبة الحكم التي أرستها حقبة الوصاية السورية على لبنان ووضعت نقطة الانطلاق لإمساك فريق المعارضة يومذاك بزمام الحكم بعيد الانتخابات النيابية التي جرت بعد نحو خمسة أشهر في صيف ذلك العام . ولكن رياح الأمور سارت عكس ما يشتهيه فريق المعارضة الحالي، أو ما كان يعتقد أنه بات وشيك التحقق، فلجأ إلى خيار التصعيد نحو الحدود القصوى فكانت ذروة الإحقاق لآمال هذا الفريق في يوم تشييع جثمان اللواء الحسن بالقرب من ضريح الرئيس الحريري في ساحة الشهداء في وسط بيروت . فقُبيل مواراة الجثمان الثرى، صعد رئيس كتلة »المستقبل« النيابية الرئيس فؤاد السنيورة إلى المنبر ودعا الرئيس ميقاتي إلى الاستقالة والرحيل الفوري وأعلن مقاطعة كل أشكال التلاقي والحوار الوطني مع الحكومة، مادامت حكومة ميقاتي قائمة . وبعد ذلك بدقائق ظهر إعلامي كان يتولى تقديم الخطباء ليدعو الجمهور المحتشد للمشاركة في التشييع صراحة إلى الذهاب إلى السراي الحكومي (مقر رئيس الوزراء) التي هي على بعد أمتار من مكان التشييع، فكانت الخطيئة الكبرى التي استدعت ردود فعل واسعة وحاول فريق 14 آذار عبثاً التحلل من المسؤولية، إذ عمد شبان بعضهم يحمل علم الثورة السورية إلى محاولة اقتحام السراي الحكومي فتصدى لهم عناصر قوى الأمن الداخلي المولجين بالحماية، فدارت مواجهات، حسمها تدخل الجيش الذي أمن »زنار« حماية حول مقر السراي، فانكفأ المهاجمون ليقيموا خيمة اعتصام دائمة قبالة السراي . ثم كانت الضربة السياسية الثانية التي تلقاها فريق 14 آذار والتي تمثلت في مبادرة سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بزيارة مشتركة إلى قصر بعبدا ناقلين إلى الرئيس سليمان دعم دولهم لبقاء حكومة ميقاتي كونها عنصر استقرار وأمان للبلاد ورفضها حدوث أي فراغ في الحكم . بدوره كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط يعلن أنه ليس في وارد السير بدعوات فريق 14 آذار وأنه متمسك ببقاء الحكومة الحالية لأن بديلها هو فراغ مديد مفتوح على أزمات سياسية وانهيارات أمنية، وأعلن بالمقابل استعداده الدخول في حكومة جديدة إيذاناً لعملية التغيير الحكومي المنشودة بإجماع وطني من كل مكونات المشهد السياسي في الساحة اللبنانية . بل إن جنبلاط كشف النقاب عن أن سعد الحريري طلب إليه سحب وزرائهم من الحكومة، لكنه أجاب بالرفض المطلق . وحيال هذا المشهد المتغير والمتحول، وإزاء ردة الفعل الواسعة الرافضة لممارسات فريق 14 آذار لاسيما اقتحام السراي الحكومي وحيال الدعم الدولي الواسع للحكومة بادر الرئيس ميقاتي إلى التخلي عن تحفظه وعن إرباكه وأعلن تصميمه الاستمرار في الموقع الذي يشغله بل إنه وبعد يومين دخل إلى السراي الحكومي ليزاول مهماته وليلتقي وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي اشتون التي نقلت إليه دعم الاتحاد، ثم غادر إلى المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج التي اعتاد على تأديتها سنوياً، تاركاً الفريق الآخر يراوح في لجة الأزمة . ولم يكن تصعيد فريق 14 آذار مقتصراً فقط على المشهد السياسي، إذ لجأ أنصاره تحت وطأة الشحن والتحريض والاحتقان إلى النزول إلى الشارع في بيروت وتحديداً في الطريق الجديدة وطرابلس وعلى طريق الجنوب . إضافة إلى بعض مناطق البقاع الأوسط، فيما كان جمهور هذا الفريق في طرابلس يقيم خيمة اعتصام أمام دارة الرئيس ميقاتي وكان أنصاره أيضاً يهاجمون مقرات ومكاتب قوى تابعة لتنظيمات توالي قوى 8 آذار مثل »حركة التوحيد الإسلامي« في أحد أحياء طرابلس الداخلية . وهكذا وعلى مدى ثلاثة أيام أصيبت العاصمة بيروت بنوع من شلل شبه تام، فيما تجددت المناوشات والاشتباكات على خط التماس التقليدي في عاصمة الشمال وعلى وجه التحديد بين حي باب التبانة وجبل محسن . وبمعنى آخر نجح جمهور فريق 14 آذار وبالتحديد تيار »المستقبل« في فرض حالة توتر واستنفار أمني في مناطق عدة من البلاد، لاسيما بعدما نزل المسلحون علانية إلى الشوارع وراحوا يتجولون أمام كاميرات وعدسات الإعلام، وهنا برز دور المؤسسة العسكرية التي أصدرت بياناً تحذيرياً شديد اللهجة ثم أعطت وحداتها أوامر بالمواجهة وتعقب المسلحين ولاسيما في منطقة الطريق الجديدة في العاصمة وخلال أقل من 24 ساعة عادت الأمور إلى حالتها شبه الطبيعية، وكان لافتاً أن قيادة الجيش اللبناني أعلنت وللمرة الأولى أنها ألقت القبض على نحو مئة شخص في بيروت شاركوا في المواجهات وأعمال الشغب التي جرت ومن بينهم 34 سورياً و4 فلسطينيين . وفيما سارعت الفصائل الفلسطينية إلى نفي ما أُذيع عن تورط عناصر فلسطينية من مخيمات بيروت في المواجهات وأعمال الشغب التي جرت تحدثت الأنباء عن سقوط مسلحين فلسطينيين ولبنانيين في محلة الطريق الجديدة . وفيما تصرفت قوى 8 آذار على أساس أن الفريق الآخر أخفق في تحقيق »انقلاب« كامل المواصفات كان يعد له مستغلاً ما حدث في محلة الأشرفية وفيما بدأ الرئيس سليمان تنفيذ ما وعد به أي إجراء سلسلة مشاورات واتصالات مع أركان القوى السياسية لبحث إمكان إقامة حكومة جديدة تخلف حكومة ميقاتي وذلك نزولاً عند مطالب فريق المعارضة فإن هذا الفريق ظل مقيماً على إضرابه السياسي، وظل مواظباً على سياسة التصعيد في وجه حكومة ميقاتي ورافعاً شعار ترحيلها من دون إبطاء ومقاطعة جلسات البرلمان ورفض المشاركة في أي حوار . وبالتالي كان أمام هذا الفريق مهمة التخفيف من وطأة »الفيتو الدولي« المعارض لعملية إسقاط حكومة ميقاتي إذ اعتبر أن هذا الدعم الدولي الذي تلقاه سريعاً خلال الأيام القليلة الماضية هو ليس في سبيل حماية حكومة ميقاتي بقدر ما هو في سبيل حماية الاستقرار والحيلولة دون الوقوع في قبضة الفراغ وما يمكن أن ينتج عن هذا الفراغ من محاذير ومخاطر أمنية وسياسية . ماذا بعد؟ هذا السؤال مطروح بإلحاح على الساحة السياسية والإعلامية، ويتبعه سؤال آخر على ماذا يراهن فريق 14 آذار لكن يمضي قُدماً في التصعيد وفي إعلان الإضراب السياسي ومقاطعة كل أشكال السلطة والحكم؟ ثمة آراء عدة برزت حيال أبعاد هذا السلوك التصعيدي في نظر البعض و»المغامر« في نظر البعض الآخر وبالتالي خلفياته: الأول يرى أن هذا الفريق لم يعد لديه ما يخسره عملياً لذا لجأ إلى اتباع هذا النهج ولكنه يكرر الخطأ الذي ارتكبه فريق 8 آذار في عام 2007 و800_ والذي لم ينته إلا بعد أحداث 7 أيار/مايو عام 2008 وهو خطأ التعطيل والإضراب السياسي والمقاطعة والاعتكاف حتى ولو كان الثمن في خاتمة المطاف هدم الهيكل على رؤوس الجميع وبالتالي تعميق الأزمة الداخلية واعتراف كل البلاد فيها . أما الرأي الثاني فيرى أن فريق 14 آذار وقع أو أوقع نفسه في الأزمة ولا سيما بعدما أخفقت رهاناته على دفع ميقاتي إلى الاستسلام والرحيل معاً وعلى اقتحام السراي الحكومية وفرض أمر واقع فبدل أن يعود إلى التهدئة وسياسة الحوار ومد جسور التواصل، مضى قُدماً في التصعيد في محاولة لبلوغ أمرين اثنين: الأول: تعميم أزمة هذا الفريق لتصير أزمة وطنية تشمل الجميع . الثاني: فرض أمر واقع جديد في البلاد، يدفع الجميع بما فيهم الدول الغربية والعربية المعنية إلى المسارعة لفرض تسوية جديدة تعيد الاعتبار لهذا الفريق الذي خسر الحكم قبل أقل من عامين ويوشك أن يخسر نفسه ووهجيته وحضوره في الشارع لاسيما بعدما كشفت التطورات والارتدادات الأخيرة التي تلت اغتيال اللواء الحسن، نقاط ضعف عدة مزمنة في جسد هذا الفريق وعلى المستويات القيادية والمقاعدية . في الآونة الأخيرة انتعشت آمال هذا الفريق عندما أعلنت واشنطن أنها تؤيد تغييراً وزارياً، لكن هذا الكلام لم يكن إلاّ من باب التمويه لاسيما بعدما ربطت هذا التأييد بشرط الإجماع وعدم حصول فراغ حكومي . وفي كل الأحوال بدا واضحاً أن فريق 14 آذار لم يدخل إطلاقاً مرحلة اليأس، إذ إن تيار »المستقبل« الذي يشكل رافعة هذا الفريق وعموده الفقري أعلن أخيراً أن التحضيرات جارية لتنفيذ خطوات عملية تحت سقف الدستور والقانون من أجل الدفع في اتجاه إسقاط الحكومة، مشيراً إلى أنه سيعلن عنها بعد إنضاجها . رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة الذي يقود حالياً فريق 14 آذار اجتمع إلى السفراء العرب والأجانب ليشرح لهم موقف فريقه ويحصل منهم على دعم ولكن يبدو أنه لم يحقق ما كان يريد . هل سينجح هذا الفريق في مسعاه، وفي تحقيق ما يرفعه منذ زمن؟ ثمة شكوك ولكن الثابت أن الأزمة السياسية مستمرة في لبنان .