كثيرة هي الألآم التي أصابت الجسد اليمني الذي لم يعد يقوى على النهوض, أحداث كثيرة تلاحقت على هذا الجسد المنهك فكلما حاول المقاومة عبر مصلات مضادة للجروح والأمراض يأتي ما يفتك به. أتذكر أول يوم بدأت فيه أحداث " 94 " كنت يومها طالباً في معهد مصعب وسط مدينة إب، في المرحلة الإعدادية كان شقيقي الأصغر سلطان، يقف على مقربة من مقر الحزب الاشتراكي جوار مبنى المحافظة، كانت الحركة غريبة ومفجعة لنا كأطفال لا نعى ما يحدث من حولنا. حصل إطلاق نار بالقرب منا بدأ الهلع والخوف يملأ قلبي لكنني تظاهرت بالقوة أمام شقيقي, تركنا الجميع وسط الشارع الرئيسي كان الموقف مخيف وتفاصيله مخزونة في مخيلتي اتذكرها بين حين والأخر, وصلت إلى شارع العدين الذي كان يومها –ولازال- الشارع التجاري الأول في إب, كانت المحلات مغلقة وكان الناس يهرعون مسرعين, المنظر أشبه بمناظر الحرب التي نشاهدها في الدراما والسينما. كانت لحظات صعبة وأنا أشاهد وأعيش مشاهد رعب لأول مرة, كانت أمي أيضاً تعيش حالات مماثلة بل أصعب من ما أعيشه أنا وشقيقي. وصلت إلى جوار كلية التربية حيث كنا نسكن بدا عليّ ملامحي نشوة النصر على الخطر والألم مع جهلي حقيقة ما يحدث وصلت إلى المنزل وأمي في لحظات ترقب وخوف وفرح لا تجتمع بقلب أحد غير قلوب أمهات ينتظرنا فلذات اكبادهن، شرحت لها ما حصل كانت فخور بي وأمطرتني بعبارات الفخر والاعتزاز بولدها البطل الشجاع الذي انتصر على الخوف والأم. كانت الفرحة لا تسعني وأنا أشرح لأبناء الحارة كيف أن طقماً عسكرياً مر من جواري بسرعة البرق وكيف أني نجوت من رصاص الجنود الذين اقتحموا مقر الحزب الاشتراكي, كنت في كل مرة أعيد القصة على أبناء حارتي أقوم بإضافة فصل جديد من البطولة دون اكتراث لما قد يقوم به أصدقائي من تكذيب للقصة. يومها كان أبي في متجرة لا يعلم شيء عن بطولاتي كنت انتظر وصولة بفارغ الصبر لكي أحصل منه على نقود جزء لما قمت به لكن والدتي نست قصتي وراحت تقنع أبي أن نغادر إلى القرية حيث المكان أكثر أمناً من المدينة وهكذا انتهى حلمي بجائزة مجزية جراء ما قمت به من حماية لشقيقي ونجاتي من الحرب. كانت أيام رائعة هي التي عشتها في حارة جمعت فيها أبناء الطبقة الراس مالية والطبقة الكادحة الفقيرة وكذلك المتدينة كان يسكن جوارنا الشيخ السلفي "محمد المهدي" وكنت حينها لا أحب الشيخ لأن أولاده يقومون بالتقوّي ونهب كل ممتلكاتي أتذكر أن ابن الشيخ محمد أخذ منى دراجتي الهوائية وهرب بها إلى بيت جدة في منطقة بعيدة كانت علامات القهر والاستبداد والألم بادية على ملامحي كنت أقول كيف لمن يصلى بنا أن يسمح لولده أن يفعل كل هذا بي كنت أحاول أن أحصل على حديث أو آية قرآنية تحرم على ابن الشيخ الاعتداء، أو أخذ ما امتلك لكني فشلت. قلت يومها لوالدتي لن أصلي في جامع الحكمة قالت لي وهي متعجبة عن هذ القرار قلت لها عندما يتوقف محمد (اقصد ابن الشيخ) عن أخذ ممتلكاتي التي كانت بالنسبة لي أغلى من ممتلكات هائل سعيد أنعم وكبار التجار، لم يتوقف محمد كما لم انفذ تهديدي بالتوقف عن الصلاة في مسجد الشيخ، مع تسارع الأيام والأحداث كنت أعيش بعيد عن السياسة وضجيجها والآمها ونتائجها لا أعلم بالتحديد من قام بدور الملهم لي في الخوض في الإعلام واقتحام عالم السياسة لكني بالتأكيد لست حزين حيال ذلك. اشعر أنى قاومت كل الإغراءات والتهديدات بفقدان امتيازات كنت أحصل عليها، فارقت عالم رائع يشعرك أنك في مطاردة دائمة، وبحث عن الربح السريع في سوق لا يرحم الأغبياء، انتقلت إلى عالم آخر لا أمتلك الخبرة ولا الدعم كل ما كنت امتلكه هو روح التحدي والانتصار وهو ما بدأ يتلاشى بفعل التحديات المستمرة في هذ المضمار. كانت أحلامي بسيطة والآلام كبيرة وشعور الفشل يرادوني باستمرار لكنني مع ذلك واصلت التحدي والألم، الغوص في الماضي لن يجدي نفعاً لأن الماضي يدون كذكريات يتخللها لحظات سعيدة وأخرى حزينة وفواصل من الألم. في العام" 2011م " كنت على موعد مع قصة استطاعت تغير كثير من قناعاتي كنا نعيش في ضل نشوة العمل الثوري والانتصار على نظام صالح والتطلعات إلى دولة كتلك التي نشاهدها في الفضائيات وكتلك التي يكتب عنها الأدباء في رواياتهم عشنا أيام استهلكنا فيها طاقات عظيمة وهائلة ورسمنا مستقبل وردي ينتظرنا في حال سقط الصنم. لم يسقط الصنم بل سقطت احلامنا وسقط معها مشروع الدولة، لقد سحب الكبار البساط من تحت أقدمنا واستبدلوا احلامنا ومستقبلنا بحاضرهم وتقاسم الأدوار وأعادوا انتاج الصنم. في أؤخر "2011م" كنت في زيارة الى صعدة ضمن وفد من شباب الثورة كانت الزيارة مخصصة لمعرفة ما يدور بين شركائنا في الثورة وبين السلفيين القاطنين دماج، تمت الترتيبات مع قيادات شباب الصمود وتم الاستقبال المهيب لنا من قبل أبو علي الحاكم الذي كان يومها الحاكم العسكري لمدينة صعدة. كان يتفحص وجوهنا كضابط امن غبي يرسل ابتسامات لمتهم خطير, لم نكترث لما يخطط له الحاكم وقيادات الحركة ومضينا نحو ما جئنا لآجلة, وضعوا العراقيل تلو العراقيل لكي لا نصل الى الحقيقية لكن بعد فواصل من التهديدات والاتهامات والتخوين وصلنا دماج, كنت ضمن ثلاثة دخلوا المنطقة, من يومها وأنا أعيش في صراع مرير مع التضليل وكميات من الأكاذيب التي اختلقوها, لم أعد اثق بهم. قالو أنهم لا يحاصرون السلفيين ولا يمنعون عنهم الماء والحليب للأطفال وكانت الحقيقة أنهم يقومون بأعمال ابشع مما كذبوا بها, حاول أبو علي الحاكم وبعض قيادات الجماعة شق صفنا وجعلنا نتناحر لكنهم فشلو, كانت العبرات والألم تخنقني كلما رجعت بي الذاكرة إلى سعادة الأطفال في دماج وهم يتمتعون بدقائق من الأمن والأمان اثناء تواجدنا في منطقتهم. أثناء عودتي مع الزملاء من صعدة بحيلة ابتكرناها لكي ننجو من عقاب السيد اتصل بي الناطق الرسمي للحوثيين محمد عبد السلام طالباً مني أن أعود، وقال لي بالحرف "نعتذر عن تصرفات البعض فهم غير متعودين على الإعلاميين والصحفيين" كان صادقاً في كلامه هم لم يتعودوا إلا على الحروب. أعرف أن ما كتبته عن صعدة لن يحدث شيء على أرض الواقع فقد أصبحوا هم من يحكم اليمن، مع حلفائهم ومن سهلو لهم ذلك. لكن مع كل ما حققه الحوثيين من نجاحات وتوسع لكنهم خسروا الكثير من سمعتهم التي حاولوا أن يجمعوها بعد أن خرجوا من كهوف مران، لقد خسروا اخلاقهم التي كانوا يتشدقون بها. من يفجر المساجد والمدارس؟ ومن يحول ملاعب كرة القدم إلى معتقلات؟ لم يربح شيء بل خسر كل شيء!. إلى الآن لم تعلن جماعة الحوثي عن مشروعهم السياسي الذي ستقدمه لليمن كلما جنيناه منهم هي مليشيات مسلحة اسقطت الدولة وتقوم بأعمالها وتنتقم من خصومها وخصوم من تحلف معهم، وسهل لهم احتلال العاصمة. اين مشروعهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي سيحكمون به اليمن؟ لعل التخبط والعشوائية لاتزال هي السمة الأكثر وضوحاً حتى اللحظة ولعل شهوة الانتصار لم تهدأ بعد، ومازالوا يتطلعون إلى مزيد من الانتصارات، على حساب الاخلاق والقيم والدولة التي سقطت في براثين جهلهم وتصرفاتهم الحمقى. عشت في صنعاء سنوات طويلة لم اشعر أنى غريب كشعوري بعد "21سبتمبر" لعلي لم أتعود بعد على أجواء احتلالية من قبل هي ما يجعلني أشعر بهذا الشعور. حاولت أن أكتب عن الألم اليمني لكنني هرولت إلى إرغامكم لقراءة بعض خيباتي ومغامراتي في الحارة وفى محطات من حياتي, ولعل ذلك هروب من واقع مرير أصبحنا نكرة الحديث عنه, وأعتقد أن الحديث عن ما حصل ويحصل لليمن من جراح وأزمات سيكون له سياق آخر، كلما في الأمر أنى ابتعدت عن مداعبة الحروف والكلمات وحاولت اليوم أن أعود إلى محرابي وإلى كتابة بعض ما يجول في خاطري.