هم غرباء في فهمهم وفي تفكيرهم وفي سلوكهم، غرباء بين اهلهم وجيرانهم واصدقائهم، غرباء عن بيئتهم، يعيشون مع الناس ولكنهم في الحقيقة يعيشون عالمهم الخاص الذي يتوقون اليه، هذه الغربة ضرورية للتغيير؛ لأنهم اذا ألفوا الواقع الذي لا يقبلونه وتماهوا معه فلن يستطيعوا أن يغيروا فيه شيئا، هم الغرباء الذين اشار اليهم حبيبهم بقوله: «طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس». يتواطؤ الناس في حياتهم الراكدة على كثير من المعاني والعادات التي لا تنتمي الى منظومة قيمهم وتكون دخيلة عليهم، من قبل الخصوم، أو تكون مما ابتدعته حياة الكسل والدعة والخمول، ومع طول الوقت تألفها النفوس فتصبح متأصلة راسخة لا يمكن التخلي عنها ببساطة ولا حتى ببذل الجهد، وهي من صنف ما اشار اليه القرآن: (فطال عليهم الامد فقست قلوبهم)، وحين يأتي من يريد أن يعيد الأمر الى نصابه يواجه صعوبة بالغة ومنطقا غريبا (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، ويناقش القرآن الأمر بقوله: (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)، وهكذا يبدو سلوك الاصلاح غريبا وشاذا ومرفوضا، وقد يصنف في خانة العدوان على المجتمع، ويرقى الى مستوى الجريمة التي تستحق العقاب في نظرهم، ألم يقل قوم لوط لنبيهم: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) فأصبحت الطهارة في عرفهم جريمة تستحق النفي من المجتمع الذي غرق في دنس المعاصي والاوحال، ولم يعد يطيق الطهارة والنظافة، حيث أصبحت هي الحالة الشاذة المرفوضة، وهكذا صار لوط غريبا في مجتمعه، وما أشبه اليوم بالبارحة، وما أكثر ما يتكرر هذا النموذج في حياة البشر، وبمقدار ما يغرق الناس في بعدهم عن جادة الحق والصواب، بمقدار ما تكون المقاومة للاصلاح ودعاته، وبمقدار ما يكون الرفض والاستهجان والاستغراب من سلوك المصلحين، فهم يحملون السلم بالعرض، أو هم ظلاميون أو متخلفون أو مستعجلون في أحسن الأحوال، وهم على كل الأحوال متآمرون مندسون، يريدون بث الفرقة والخلاف ويهددون الأمن، ويتطاولون على المجتمع ورموزه، ويطيلون ألسنتهم على كباره الذين كبروا في غياب الأجواء الصحيحة والصحية التي تنمو فيها الكائنات بشكل طبيعي وسوي، وهم كذلك يريدون العلو والاستحواذ، والانفراد بالسلطة ونهب المقدرات؛ أي إنهم تحت كل الظروف يجب ان ينفوا ويحاربوا أو يقتلوا إذا لزم الأمر، فالحفاظ على أمن المجتمع ووحدته وتماسكه أولى من الاستجابه لمطالب هؤلاء الغرباء عنه. إذاً هو الثمن الذي يدفعه الغرباء اذا ارادوا إصلاح المجتمع، هو التدافع بين الحق والباطل، تلك السنة الماضية في حياة البشر ولا بد من ان يتضارب الحق والباطل (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض..)، وهو تضارب لا يسعى اليه المصلحون، إنما يبدؤه في العادة الفاسدون المفسدون، فهم يفتقرون الى الحجة لمواجهة الحق واهله، وحين يفلسون في مقارعة الحجة بالحجة يلجؤون الى البطش والتنكيل والايذاء، وحينها يضطر أصحاب الحق الى الدفاع عن أنفسهم وبرنامجهم وقضيتهم؛ لأنه ليس من المنطق أن يستسلم أهل الحق لأهل الباطل لينكلوا بهم دون أن يحركوا ساكنا؛ لأن ذلك ليس من طبيعة الحياة والناس وفقد تعارف الناس في كل عصورهم واديانهم ومللهم وتوجهاتهم على شرعية الدفاع عن النفس في مواجهة العدوان الظالم ايا كان مصدره وسببه. السلمية والصبر والحكمة كلها مطلوبة حين يراد الاصلاح، وهي الاولى والاجدر ان تتبع، لكن الباطل المنتفش المغرور لا يترك لهذه الاساليب مكانا حين يضيق ذرعا بالمصلحين ومطالبهم، فيلجأ الى الاساليب العنيفة التي تولد ردود أفعال مشابهة، وعندها تكون الخسارة كبيرة في المجتمع والناس، ويدفع المجتمع ثمن سكوته طويلا عن الانحرافات التي تبدأ صغيرة وتنتهي بفساد عريض يأكل كل شيء، ولو أن الناس كانوا حراسا أمينين على مجتمعهم فصححوا مسارهم على الدوام، لما لزمهم كل هذا العناء الذي يسببه الاصلاح بعد فوات الأوان وخراب العمران، وتأصل الشر وتفشي الامراض والاوبئة بشكل يستعصي على الاصلاح الهادئ؛ لأن الفاسدين الذين استمرؤوا وضع الفساد لن يتخلوا عنه ببساطة، ولن يسلموا رقابهم للمصلحين ليحاسبوهم على ما اقترفوا، فتكون معركة قد يكون ثمنها الارواح والممتلكات ولكنها معركة لا بد منها في النهاية؛ لأن البديل عنها أسوأ بكثير من الخسائر التي تترتب على خوضها. طوبى للغرباء الذين قبلوا التحدي وفارقوا مألوف الناس، واستعدوا للتضحية لأجل معتقدهم ولأجل وطنهم وأمتهم، الذين تسامت نفوسهم عن حياة الذل ولم يطيقوا الفساد والاستعباد، استعدوا أن يدفعوا الثمن الذي جبن عن دفعه الآخرون، هم خير الناس، هم ملح الارض، هم الذين يرفع الله بسببهم البلاء، وينزل الغيث من السماء، انهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، انهم اشرف الخلق واصدقهم، هم الذين اصطفاهم الله لرفع رايته وأورثهم الارض، واورثهم كذلك جنته التي وعدهم اياها يوم يلقونه، فطوبى لهم، طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، رغم الصعوبة والمشقة والثمن الباهظ، رغم الحرج والالم والمعاناة، رغم الخوف والتهديد والصخب الذي يمارسه الباطل ضدهم، طوبى لهم طوبى لهم.