ثمة اتجاه سائد يروم أصحابه التنفير من ثورات «الربيع العربي» والتحذير منها؛ من خلال تركيز الضوء على ما أحدثته تلك الثورات في بعض البلاد من مواجهات دامية، نتج عنها سقوط قتلى، ووقوع إصابات متزايدة، وتخريب منشآت عامة، والاعتداء على ممتلكات عامة وخاصة، يضاف إلى ذلك كله ذهاب الاستقرار، واختلال الأمن، وسريان تخوفات وهواجس عديدة في أوساط الناس؛ جراء انتشار ظواهر الاعتداء والسلب والسرقة وما إلى ذلك. مما يحسن التذكير به أن ثورات «الربيع العربي» توسلت في كل نشاطاتها وفعالياتها إلى السلمية الخالصة، ولم تلجأ إلى عسكرة ثوراتها إلا حينما فرض عليها النظام الرسمي ذلك، كما في الحالة الليبية والسورية، وكانت سائر تلك الثورات تصر على سلميتها في مواجهة عنف الأنظمة، وسطوة قمعها، واستطاعت بثبات القائمين عليها، واستبسالهم في الدفاع عن الغايات والأهداف التي قامت من أجلها أن تحقق ما أرادت من إسقاط رؤوس الأنظمة الاستبدادية، وما زالت تجاهد وتناضل من أجل تطهير سائر المواقع من مخلفات تلك الأنظمة القمعية الظالمة. وقد تمثلت قوة تلك الثورات بسلميتها ورفضها اللجوء إلى قوة السلاح -باستثناء من فُرض عليها ذلك- لقد جاءت تلك الثورات على حين غرة، إذ لم يكن أحد من الخبراء والمتخصصين يتوقع أن تأتي الأحداث على الصورة التي وقعت عليها؛ لأن فعل الثورات الشعبية كان مستبعدا عن الجماهير العربية؛ لما غلب عليها من روح الاستكانة والخنوع، والاستسلام لأوامر الحكام المستبدين، والاستجابة التامة لتنفيذ رغباتهم، فما حدث كان مفاجئا للجميع، وغير مدرج في أي من التوقعات والاحتمالات المسبقة. حينما يراجع المرء الظروف والحيثيات التي أنتجت تلك الحالة الثورية في الشعوب العربية، يجد أن واقع الظلم المتفشي، والاستبداد المتمدد، والديكتاتورية الراسخة، وما أنتجته تلك الأنظمة بسياساتها الاقتصادية من إفقار البلاد، وتجويع العباد، وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية في بلادهم كي يعيشوا حياة كريمة هانئة، كانت أسباب تراكمت مع السنين والأيام، وأوجدت حالة من الرفض الكامن لكل تلك السياسات والأنظمة القائمة على إنتاجها وترسيخها في المجتمعات. كانت تلك الأنظمة تعامل مواطنيها بقبضة أمنية صارمة، بحيث نشأ الناس على الخوف والجبن وعدم التدخل في الشأن السياسي؛ خوفا وهلعا من تلك المعاملة التي يلاقونها في مقار الأجهزة الأمنية التي تفننت في تعذيب الناس وتخويفهم وترويعهم، تم معها سحق المواطن، وتجريده من كافة حقوقه السياسية في أن يمارس حقه المشروع، المتمثل في اختيار من يحكمه ويمثله في السلطة والحكم، لقد غدا الإنسان في تلك الأنظمة كائنا مسلوب الحقوق، ولا يستطيع أن يعبر عن رأيه وأفكاره، ويخشى من الكلام في العلن، إنها حياة العبودية والديكتاتورية والاستبداد، التي ضربت بأطنابها على سائر أراضي بلاد العرب. إن أولئك الذين ينفرون ويحذرون من ثورات «الربيع العربي»، لا يقدمون بدائل لتغيير أوضاع الظلم والاستبداد والفساد والديكتاتورية القائمة في عالمنا العربي، أفلا يزعجهم ذلك الواقع؟ ألا تقلقهم تلك الممارسات الظالمة والباطشة التي تمارس على المواطنين بلا هوادة؟ أليس من حق المواطن العربي أن يكون كغيره من بني البشر إنسانا حرا كريما يعيش في بلاده متنعما بخيراتها، عزيزا لا يضام ولا يظلم؟ إن كان المنفرون والمحذرون من ثورات «الربيع العربي» يقرون الواقع على ما هو عليه، فإنهم يستحقون أن يذهبوا مع الظلمة والمستبدين والظالمين، أما إن كانوا يرفضون ذلك الواقع ويعارضون تلك السياسات، فليقدموا للناس بدائل عن كيفية تغيير ذلك الواقع، وتخليص الناس من تلك المفاسد العظيمة والشرور الفظيعة. للأسف لا تجد في جَعبة أولئك إلا مطالبة الناس بالمزيد من الصبر على تلك الأحوال، ومناصحة أولي الأمر سرا -هذا إن استطاع أحد الوصول إليهم أو تجرأ على ذلك-. تلك الوصفة لم تنتج خلال العقود السابقة إلا السراب والمزيد من الخراب؛ لأن تغيير الواقع لا يكون إلا بالمطالبة والمغالبة، فلئن توفر من يقوم بالمطالبة وفق الوصفة السالفة الذكر، فإنها تبقى تدور في دائرة المطالبة، ولن تجد عند أولي الأمر آذانا صاغية إلا ما يتوافق مع سياساتهم ورغباتهم، أما حينما يتعدى الأمر إلى المغالبة، فإن ولي الأمر يجد نفسا في مواجهة شعبه ومواطنيه، الذين يتوسلون بوسائل سلمية يضطرون إلى ركوبها حتى يحققوا مطالبهم، ويجبروا الحاكم (ولي الأمر) على الرضوخ لمطالبهم، والاستجابة لها. ليحتفظ أولئك المحذرون والمنفرون من ثورات «الربيع العربي» بنصائحهم لأنفسهم؛ لأنه لم يعد هناك من يقبل بها، أو يأخذها ويعمل بمقتضاها، فلقد بلغ الظلم والاستبداد والفساد مبلغا عظيما غدت الحياة معه جحيما لا يطاق، وليعيشوا هموم شعوبهم، وليرتقوا إلى مستوى مشاكل الأمة الكبيرة، حتى لا تلفظهم الجماهير كما تلفظ الطغاة الظالمين.