في العام 1990م كانت الفرصة مواتية لبناء الدولة المدنية الحديثة التي أضاعها الشمال سلفا بمقتل الرئيس إبراهيم الحمدي، وأضاعها الجنوب بمقتل الرئيس سالمين .. في اللحظة الأولى وقف النافذون في وجه الدولة وتخلصوا من المشاريع التحديثية .. باغتيال قادة التحديث، وفي اللحظة الثانية، النافذون أنفسهم وقفوا في طريق الدولة وساعدهم في غيهم سلطة فاسدة كان لها اليد الطولى قبل أن تمسك بزمام السلطة في الشمال في وأد المشروع الأول، ووأد المشروع الثاني، الذي حاولت أن تخطه على طريق الفيد، والاستحواذ، والسيطرة، وهذا نمط الحكم الطاعن في الطغيان على مر عصور التاريخ. ذهبت اللحظة الأولى في حرب صيف94م، وتحول المشروع إلى مزرعة خاصة قسمت بين العمائم ذاتها، التي سعت على الدوام للوقوف في طريق الدولة التي حلم بها اليمنيون بعد قيام ثورة الشمال في62م، وفي الجنوب عام67م. لا ننسى هنا أن المشاريع التحديثية التي يصنعها اليمنيون على خط التاريخ الموازي للمكان يصطدم بقوى خارجية تقف مع النافذين في وجه الدولة .. هذه القوى كان لها الدور الأبرز في القضاء على مشروعي الشمال والجنوب في سبعينات القرن الماضي، وبنت على ذلك في استئصال أي مشروع حضاري يبنى تالياً في اليمن .. كمشروع الوحدة الذي كان يسعى إليه الحمدي، وسالمين .. اللحظة الأولي صنعت لحظة هشة في 90م، لان الهدف كان واضحا، وتجلى ذلك في الأحداث التي شهدتها البلد على مدى العشرين عاما الأخيرة ، ورغم هشاشة المقدمات إلا أنها كانت قادرة على بناء دولة مدنية حديثة إذا كانت السلطة استطاعت استيعاب الجميع وأرست الأسس السلمية لبناء الدولة ، وأول تلك الأسس التداول السلمي للسلطة، والحكم الرشيد، والشفافية .. إلى آخر القائمة. المهم الآن أن تلك اللحظة فرت من بين أصابعنا وظلت اليمن في غليان دائم حتى جاءت لحظة الربيع العربي الذي أنعش كل القوى التحديثية التي كانت لم تعد تبصر في واقع اليمن سوى الظلمة لا دونها .. بالفعل الظلمة لا سواها تحوم فوق رؤوس اليمنيين الذين اختصرت حياتهم في شخص الرئيس, وعلم بلادهم ونشيدها الوطني أختصر في مناسبات عيد الميلاد. المخيف اليوم أن تذهب اللحظة الأخيرة في خبر كان .. خشية نبديها غصبا عنا في ظل بقاء القوى التقليدية في الساحة السياسية (مشايخ، أميون، مسلحون، حزبيون شاخت معهم الحياة السياسية، زعماء قبائل، قتلة، تجار حروب) لا سيما ونحن نشاهد أن اللحظة التي يعول عليها اليمن شمالا ، وجنوبا .. شرقا ، وغربا تعصر من قبل هذه القوى التقليدية التي أصرت على تأخر اليمن في السبعينات، والتسعينات وما بعدها .. التاريخ مليء بالعبر، وفيه ما يكفي للاتعاظ ,غير أن اليمنيين يريدون أن يلدغوا من الجحر عشرين مرة .. القوى المذكورة عند ربها خارج الحدود تريد أن تدير اليمن بذات الطرق التقليدية، وبذات العقلية المشدودة إلى المصلحة، وليذهب الشعب إلى الجحيم. الفرصة لا تزال قائمة، ولا أريد أن أكون متشائماً أكثر مما يحتمل، واللحظة لا تزال ملء أيدينا، وقلوبنا, فقط نحتاج إلى الإمساك بها قبل أن تفر كسابقاتها، وإن فرت فعلينا، وعلى الأرض السلام .. وتأكدوا أنها لن تعود .. وكما قلت التاريخ مليء بالتجارب، وما هو مواتٍ اليوم، قد لا يكون مواتياً غداً، والشواهد لا تحصى."