(كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين *)، سورة الدخان.. (1) حتى لو ظل رئيسا (رمزياً) لمصر ولم يتنح إلا في سبتمبر القادم، فإن الذي لا مجال للمماحكة فيه أن الرئيس المصري (حسني مبارك) كان قد خسر منصبه ومعه هالة الفرعون التي حرص – ومعه جنده ومساعدوه- على أن تكون محيطة به في حله وترحاله، وهو الأمر الأخطر بالنسبة للمخلوع؛ فالثابت أن السلطة، بطبيعتها وتقاليدها المتوارثة في مصر، ولادة فراعين، ومبارك كان فرعون آخر ولا فخر، على غير ما قيل إن الرئيس السابق (السادات) قال يوما ما: (إن التاريخ سوف يسجل إنني وعبدالناصر آخر الفراعين)!
عندما بدأ (مبارك) عهده في أعقاب اغتيال السادات (1981)، لم تكن جينات الفرعنة قد ظهرت عليه، وبدا للمصريين أنه رئيس ضعيف، ليس لديه تاريخ في النضال الوطني كسابقيه.. وفي تلك الأيام بلغ استهانة المصريين به إلى حد تجرؤ ممثل هزلي مثل (سعيد صالح) أن يسخر منه فوق خشبة المسرح في إحدى مسرحياته، عندما خرج عن النص الأصلي للمسرحية، وراح يقيم رؤساء مصر قائلاً (واحد أكلنا المش -أرخص أنواع الجبن المصري وأسوأها-، وواحد علمنا الغش – يقصد ما شاع في عهد السادات من مظاهر الفساد بسبب سياسة الانفتاح الاقتصادي-، وواحد – أي مبارك- لا يهش ولا ينش!).
دفع الكوميدي المصري ثمنا غاليا لتلك النكتة، وحوكم علنا وقضى في السجن ستة شهور! لكن (مبارك) أثبت أنه يهش ويضرب ويقمع، وبنى لنفسه - باعتباره الفرعون الجديد- نظاما قمعيا يستند إلى أجهزة أمن متوحشة كانت خلاصة خبرات الأجهزة الأمنية المصرية منذ القدم في القمع، والإرهاب، وممارسة كل أنواع التلفيق والتزوير واضطهاد خصوم السلطة ومحاولة تحطيم كرامتهم الشخصية وقهر صمودهم بكل الأساليب القذرة المشهورة عن الأمن المصري!
(2) عندما تسلم مبارك حكم مصر: كانت البلاد في حالة سيئة في كل المجالات داخليا، وعلى صعيد علاقاتها مع محيطها العربي، حيث كانت معظم الدول العربية قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع القاهرة في أعقاب التوقيع على اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني عام 1979م!
كانت التركة مثقلة بتاريخ طويل من حكم الفرد، وقمع الحريات، وتدهور الأوضاع العامة نتيجة سياسات اقتصادية خاطئة، وسنوات طويلة من الحروب باهضة الثمن المادي والإنساني! لكن (مبارك) اتخذ في بداية عهده سياسات تكتيكية مرنة لتجاوز عنق الزجاجة للخروج بالسفينة بعيدا عن المواقع الخطرة، وشهدت فترة الثمانينات انفراجا سياسيا محدودا، فسمح بإعادة النشاط الحزبي للأحزاب المجمدة كالوفد، ومنح قوى سياسية مهمة شرعية مثل التيار الناصري، وتغاضى عن نشاط الإخوان إلى حد ما، وسمح لهم بالتحالف مع أحزاب قائمة للوصول إلى البرلمان!
لكن الوضع بدأ في التغير بطريقة مفجعة مع فترة التسعينيات، رغم أن مصر استعادت بسبب موقفها في حرب تحرير الكويت جزءا كبيرا من مكانتها السياسية في الوطن العربي، وخاصة مع دول الخليج العربي التي ألقت بمقادير القيادة لمصر مبارك، وصار رئيسها بمثابة الفتوة الحامي للخليج، أو (بودي جارد) وفقا للتعبير الغربي! انزلق نظام مبارك منذ التسعينيات في مواجهة أمنية دموية، ومواجهة إعلامية شرسة لا تلتزم أي مباديء، مع الإسلاميين دون تفرقة بين أصحاب المشروع السلمي الناشط في إطار الدستور والقوانين أو بعض الجماعات الإسلامية التي انزلقت هي الأخرى إلى مواجهة أمنية دموية مع السلطات شملت معظم سنوات العقدين الآخرين من القرن العشرين، وأنتجت نتيجتين خطيرتين:
الأولى: ازدياد توحش الجانب الأمني القمعي في النظام المصري، وتغلب الخيار الأمني على كل جوانب الحياة المصرية؛ بحيث لم يستثن حتى المؤسسات العلمية والثقافية الإعلامية التي كانت تخضع للهيمنة الأمنية الناعمة!
والثانية؛ أن النظام المصري صار العدو الأكبر للتيار الإسلامي دون تمييز.. بل وصل عداؤه لكل ما هو إسلامي إلى خارج مصر، وأعلنها عداوة صليبية عابرة الحدود: تحريضا وإثارة للعداوات الجنونية، وتزعما لحلف غير معلن: عربي وعالمي لملاحقة الإسلاميين وحصارهم وضربهم دون رحمة أو عقل.. وبكل الأساليب الممكنة: أمنيا، وثقافيا وإعلاميا.. وربما كانت جريمته الكبرى مشاركته في الحصار الإجرامي على قطاع غزة مع الصهاينة والحلف الغربي الصليبي!
ومع النجاح الظاهري الذي تحقق للسلطات المصرية في هذين المجالين، فقد ركن إلى سراب النجاح الذي تحقق، وظن أن القبضة الأمنية توفر له (الأمان) من كل خطر، وأن الحملات الإعلامية والفكرية المضادة – التي شارك فيها مثقفون وإعلاميون أعماهم الحقد على الإسلاميين عن رؤية المستنقع الذي جرهم النظام إليه- قضت على المشروع الإسلامي وقمعت رجاله، ووفرت للسلطة تحالفات تحميها من الخطر!
(3) النجاحات المؤقتة التي حققها الخيار الأمني القمعي في مصر كرست الحكم الفردي المغرور، وتحول (مبارك) إلى نصف إله وفرعون جديد، يحوطه بخور الكهنة، وترانيم النفاق، واحتفالات المعابد الصاخبة (أثناء مشاركته في الانتخابات الأخيرة فرشت له ساحة المدرسة بالسجاجيد لتسير عليها.. سيارته!) وكان مفهوما أن ينتج ذلك غشاوات وأحجبة سوداء تحجب رؤية المنزلق الذي تتجه إليه البلاد.. وانتشر الفساد بصورة لم تكن تخطر على بال أحد حتى من مؤيدي مبارك الذي بدأ عهده بملاحقة بعض الفاسدين من أسرة السادات ومعاونيه.. لكن عهده انتهى وأقرب مساعديه زكريا عزمي – عضو مجلس الشعب ومدير مكتبه- يعلن جهارا: (الفساد بقى للركب)! وأحاطت بأسرة مبارك روائح قذرة عن فسادها لم تحدث لرئيس قبله! وزاد الطين فسادا؛ ظهور نية الفرعون توريث السلطة لابنه في بلد كان الأول في القضاء على الملكية؛ بل أعتى نظام ملكي في المنطقة.. وكانت هذه الخطوة هي الشرارة التي كان لها الدور الكبير في تأجيج المعارضة الصاخبة ضد مبارك والتجرؤ عليه وعلى أسرته، وحدث تقارب متسارع بين قوى وشخصيات سياسية وفكرية وإعلامية مهمة لمواجهة جريمة توريث الجمهورية والشعب المصري لأسرة متحالفة مع عصابات المافيا المحلية!
تعاونت مظاهر السلبية في النظام المصري لتهيئة النفوس والعقول لقبول فكرة أنه لا يمكن السكوت على ما يجري، لكن المخرج كان غامضا ودونه دولة بوليسية متوحشة، ونظام يروج أنه يستند لتراث آلاف السنين من عنفوان الدولة.. ولذلك اكتفى المعارضون مؤقتا بالاستناد إلى نضال سلمي يعتمد على الكلمة: شعرا وصحافة وصراخا وآنات وتحديا بدأ صغيرا ثم تطور شيئاً فشيئا بانتظار شيء ما أو تحول فجائي ما يقلب الطاولة على أصحابها أو سارقيها على الدقة!
وتراكمت عوامل السلبية والمرض في السلطة: قمع واستبداد، فساد وقح وفقر مدقع ومعاناة يومية لا تليق بمصر، واستهانة بالمصريين واحتقار عقولهم من خلال تكريس ممارسة سياسية مزورة يحرسها البلطجية واللصوص والفاسدون.. واتسعت الهاوية بين الشعب وقواه والفرعون - الذي انعزل مع أمراضه وشيخوخته في منتجع شرم الشيخ السياحي- وكهنته الذين صدقوا أن أنهار مصر صارت مملوكة لهم، والناس يعبدون الفرعون وابنه حتى وهم في أسوا حالات البؤس والإحباط! وجاءت ساعة الانهيار.. في الفترة التي ظن الفرعون وكهنته أنهم قادرون على كل شيء: ألم يحرزوا الأغلبية الماحقة في انتخابات البرلمان، ومرت الانتخابات كما خططوا لها، ولم يحدث شيء! في هذه الساعة بالضبط، حدث الانفجار الكبير، وتساقطت أحجار المعبد.. وفوجئ العالم والذين في مصر بما حدث: فالوهم الأمني تلاشى كطبقات الظلام عندما تشرق عليه أشعة الشمس الحارقة! وبدأ النظام في لحظة: عاريا، ضعيفا، غير قادر على حماية نفسه من الشعب الأعزل إلا من غضبه، وحنقه، وحقده على الذين سلبوه حاضره ويريدون أن يسلبوه مستقبله بجعل الجمهورية قيصرية يتوارثها الأبناء والأحفاد!
سقطت كل الترتيبات الأمنية، فلم ينفع الأمن المركزي.. ولا الشرطة العتيقة، ولا قانون الطوارئ، ولا المحاكم العسكرية، ولا أجهزة المخابرات المتعددة، ولا الإعلام المزيف الكاذب، ولا جوقة المفكرين وترزية القوانين! وتبخرت أوهام التوريث كأنها لم تكن.. وهرب الفئران أو اختفوا في الجحور.. وآمن الفرعون وهو يغرق بأن للشعب: حقوقا وأماني مشروعة ونبيلة.. لكن المهم أنه آمن بأن الشعب إعصار لا يملك أمامه إلا الانحناء.. والتملق.. والاختفاء.. وأخيرا: الهروب إلى مزبلة التاريخ؛ حيث لن تنفعه الضربة الجوية الأولى وخاصة بعد أن تتضح حقائق ما جرى في عهده، وجعل متظاهرا - لم يعرف شرم الشيخ ولا القرى السياحية الخاصة بالأثرياء- يرفع لافتة أثناء الثورة تقول: (يا ريت مبارك ضرب مصر الضربة الأولى وراح يحكم إسرائيل ثلاثين سنة.. كان زمنهم يشربوا من الصرف الصحي).
(4) في عهد الحروب الصليبية فرض ملوك ألمانيا ضريبة لتمويلها سميت باسم (ضريبة صلاح الدين).. ومنذ انفجرت ثورة تونس وتلتها ثورة مصر سارعت أنظمة عربية كثيرة إلى رفع المرتبات، وتوزيع الهبات والمكرمات، وصرف العلاوات، ووعد الشعوب ببناء مساكن ومحاربة الفساد!
من أجل ذلك اقترح أن تسمى هذه الإجراءات: إكرامية تونس ومصر! أما لو سقط زعيم ثالث فأتوقع أن تسارع الأنظمة المنتظرة قدرها إلى توزيع الموازنة العامة على الشعوب بالتساوي رافعة شعار: يأكلوا جاتو.. يأكلوا شوكلاتة.. يأكلوا كل اللي يحبوه!!