أعود للكتابة بعد انقطاع جراء التحاقي بالعمل التلفزيوني, وأكره أن تكون هذه العودة لدبج مقالات الرثاء والنحيب لفقدان أحباء لي غيبهم الموت, لكن ليس هناك ما يمنع ماداموا سقطوا شهداء في ثورة يخوضها اليمنيون منذ أكثر من شهر . الأسبوع الماضي كتبت مقالاً عن صديقي الشهيد عرفات, وهذا الأسبوع شيعناه مع 27 من شهداء مجزرة جمعة الكرامة وبينهم أخ ٌ عزيز وصديقٌ وفي وزميل نبيل ورفيقٌ ودود جمعتني به علاقة امتدت منذ 1995 حينما التحقنا بقسم الإعلام (جامعة صنعاء) وحتى سقط شهيداً برصاص قناصة ظنوا أنهم بقتله وآخرين سيمنعون توثيق جرائم (الطالح) بكاميراتهم. رغم رؤيتي لجسده مسجى بالعلم ووجهه المشرق بابتسامة من أقلع إلى جنة الخلد وما علق عليه من دماء زكية, غير أني أكاد لا أصدق بأن (جمال) غادر ولن يعود إلا ذكرى عطرة وتاريخ صنعه مع الملايين ممن رابطوا في الساحات والميادين وكانوا يواجهون الرصاص بصدورهم العارية, فيما كنا معهم وبينهم نتحاشاها أو أنها رفضت أن تختار إلا من استعدوا لها بنية صادقة وشجاعة نادرة. جمعتنا الدراسة في الجامعة وكذلك انتماؤنا للإصلاح جمعنا في إطار واحد ولازال عدد الإصلاحيين في كلية الآداب حينها محدوداً جداً, لنخوض معاً مسيرة العمل الطلابي وهي أجمل سنين العمر التي أشعر بدورها الكبير فيما وصلنا إليه من وعي ونضوج, وقادتنا ظروف العزوبية للسكن معاً وننتقل سوياً من بيتٍ إلى آخر والدكتور عبدالرحمن العديني حتى زواجهما وانتقالهما لسكن الزوجية في مبنى واحد بعيداً عني. قبل أكثر من ثمان سنوات, اضطررت للبحث عن شقة غير السابقة, وبادر جمال بتوفيرها في عمارة أحد أبناء منطقته وقريبة من سكنه, واقتربنا من بعض مرةً أخرى مع انشغالنا بأعمالنا المختلفة, وظل الإصلاح يجمعنا ما بين فترة وأخرى حتى قادنا للقاء دائم منذ انطلاق ثورة الشباب في ساحات التغيير وميادين الحرية. قبل استشهاده بيوم (الخميس) عاد إلينا جمال (ساحة التغيير) بعد ذهابه لصالون الحلاقة, ظل صامتاً في العصر وظننته مفلساً وعجز عن شراء القات كشأني ولم أعلم بأنه كان صائماً حينها إلا بعد ساعات على استشهاده, انتهينا من وجبة العشاء في الساحة برفقة بعض الزملاء ووفر كلانا من آخرين ثمن القات وعدنا للمقيل في خيمة (الهياجم – شرعب الرونة) ولازالت حديثة التأسيس. جمعنا المقيل حتى منتصف الليل مع صديقنا الثالث الدكتور العديني, لكن جمال كان مختلفاً ذلك اليوم, ولم أع سبب ذلك إلا بعد تلقي نبأ استشهاده وتقليب شريط اليوم السابق, حاولت أن أجرجره للهجوم على صديقنا وآخرين وللمزاح كالمعتاد, غير أنه ظل يحاول مجاراتي ولم يذهب معي إلى النهاية. استشهد جمال الجمعة برصاص قناص محترف كان ينتقي ضحاياه ببراعة من يريد أن يخرس الشهود الذين يوثقون الجرائم بكاميراتهم بعد أن غطوا السماء بالدخان الأسود وتمركزوا في أسطح المنازل. قبل ذلك بأسابيع وحينما قررنا المرابطة في ساحة التغيير كان الوحيد الذي اندفع بحماسه المعهود لدي منذ كنا طلاباً في الجامعة وحتى لحظة استشهاده, وأبدى استعداده للشهادة محملاً إيانا نحن زملاءه وقيادات الإصلاح أمانة الرعاية والاهتمام بأولاده, وقالها بوضوح: أمانتكم أولادنا حينما يستشهد أحدنا, وهي أمانة أنقلها إلى ذمتي وذمة بقية زملائه والقيادات. رحمة الله تغشاك أخي وصديقي وزميلي جمال, وهنيئاً لك الشهادة التي يختار الله لها من يستحقها, ورحمة الله لكل شهداء مجزرة الجمعة وثورة الشباب في كل ميادين الحرية وساحات التغيير بمختلف محافظات الوطن الغالي.
ثورة تنفض الغبار عن شعب غير (طالح) حينما كنا في مستشفى جامعة العلوم ننتظر خروج جثامين الشهداء لتشييعها, وزع فرع الإصلاح بمديرية خولان بيان نعي لاثنين من أعضائه الذين سقطوا في مجزرة الجمعة, إلا أن رجلاً من قبائل خولان يبدو لا علاقة له بالأحزاب والسياسة والمثقفين كان متذمراً من البيان بصورة تكشف عن الوجه الحقيقي لشعب اليمن والقبيلة وما تتجه إليه اليمن من حياة جديدة لو أحسن توجيهها. هذا الرجل القبيلي القادم من خولان, كان يحتج على أن النعي اقتصر على شهيدي خولان, وقال بصراحة بلهجته الشعبية وبتصرف مني: كان يجب أن تنعوا كل الشهداء ومن كل المحافظات فشهداء اليمن كلها هم شهداء وأبناء خولان وشهداء خولان هم شهداء لليمن كلها. هذا الموقف أجبرني على الكتابة عنه, بسبب الصورة المشوهة التي حرص نظام (الطالح) على تقديمها عن القبيلة اليمنية والبلد عموماً وفق قاعدة (فرق تسد), لكن ما يظهر هو غير ذلك وما يجب أن نؤسس عليه مستقبلاً مختلفاً يعبر عن الوجه المشرق لهذا الشعب الحضاري. فليس بعيداً على شعب اليمن أن يترك شبابها أسلحتهم في منازلهم ليرابطوا في ساحات التغيير عزل وبصورة سلمية ويوجهون القتلة بصدورٍ عارية وشجاعة نادرة, وليس غريباً على هذا الشعب أن يسعى ابن تعز وإب وعدن للدفاع عن ابن صنعاء وعمران وصعدة وذمار وحجة والدماء التي سفكت بصنعاء كانت من مختلف محافظات اليمن أكبر دليل على ذلك. بل إن قبائل الجوف ومأرب أعلنت وقوفها إلى جانب ضحايا تعزوعدن والحديدة, وأبناء عدنوتعز وحضرموت والضالع تظاهروا وتضامنوا مع ضحايا صنعاء ومأرب والجوف, وهذا ما كانت تحمله الشعارات والهتافات والبيانات والرسائل التلفونية والخطب والكلمات في ساحات التغيير وميادين الحرية ومنابر المساجد. هذه الروح الوطنية والتعاضد بين أبناء الشعب يتوجب أن يكون منطلقاً لتؤسس عليه النخب والأحزاب والمنظمات والإعلام ومن سيحكمون اليمن مستقبلاً, حياةً جديدة لليمن واليمنيين بعيداً عن النزاعات والتمييز المناطقي والطائفي والمذهبي والحزبي.