الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشهيد أنور عبد الواحد الماعطي
نشر في الجمهورية يوم 18 - 03 - 2012


الشهيد الفاتح
كان يمكن أن تمر جمعة الكرامة وهو يتجول في الحديقة.. أو في قريته مسور الحجلة بخولان الطيال مع الأهل والأصدقاء..أو في استقبال أصدقائه في منزله الجميل..
لكن ملامح الفتى تكشف عن غرامه بالتأمل، والتصالح مع النفس إلى حد كبير.. مع هدوئه وقلة كلامه، ومبادرته وحبه للانجاز..
في منطقته الواقعة شرقي العاصمة صنعاء، ومن تلك المنازل الطينية استقى أنور عبد الواحد الماعطي نكهة التاريخ وأصالة الانتماء.. وفي مدرسة الشيخ حسين بن علي الصلاحي، درس حتى الصف الثاني الثانوي العلمي وهي ذات المدرسة التي درس فيها شيخه في القرآن ورفيقه في الثورة والشهادة الشهيد الحافظ محمد قناف غنيم..
الثامن عشر من مارس ألفين واحد عشر.. جمعة الكرامة.. كان القناصة يعتلون منزلا محصنا لأحد سدنة النظام العائلي.. كانت الأجواء معدة سلفا لتنفيذ أبشع مجزرة شهدتها العاصمة صنعاء.. كانت الأرض تفترش النيران الكثيفة والسماء تعصب وجهها بالدخان..وتمطر رصاصا..
الوقت بُعيد صلاة جمعة الكرامة.. المكان أمام بوابة ذلك المنزل الذي ينطلق الرصاص من كل نوافذه وشرفاته من قبل محترفين على أعلى مستوى من الإعداد والتدريب..
كان لأنور ذي الستة عشر ربيعا، ومن في حكم سنه، أن يرتاع من كثافة النيران، أن يخشى على حياته وهو يرى الإصابات المتتالية توقع الواحد تلو الآخر بين يديه ومن خلفه..
قرابة ثلاثين شهيدا سقطوا في دقائق معدودة.. والشباب يبحثون عن ممر مناسب لإيقاف القتل الممنهج، لكنهم لم يجدوا الطريق.. فجأة، ومن بين الرصاص الكثيف يندفع فتى وضيء الوجه، باتجاه المكان الذي أعد للموت المحتم.. يصعد على أكتاف الشباب المحاصر.. يقفز إلى الجانب الآخر ويرمي بثقل جسمه كله صوب الباب فيفتحه.. ليطلق عليه القناصة رصاصة الغدر من الخلف.. وبالتالي يترك المجال لغيره ليكمل المهمة..
وإزاء الأعداد التي كنا سنشهدها إزاء عمليات القتل الممنهج.. وجميع الشباب هدف للقتل والرصاص.. بادر أنور فنال عن جدارة وبطولة لقب الفاتح.. يرفع أصابعه بإشارة النصر وهو محمول على أيدي من بادروا إلى إسعافه من رفاقه في الثورة..
لم يكن مقيما في ساحة الاعتصام بسبب التزامه في مقعد الدرس بمدرسته، لكنه كهؤلاء كان يؤمن بالحق في التغيير.. بالثورة.. بالحق في الحرية والعيش الكريم.. حتى ولو قطع المسافة من خولان إلى صنعاء يوميا..
هو شبل مبادر.. يحمل هما بحجم حلم شعب وإرادة أمة.. انطلق من حلمه الحق.. وجسد في حياته اليومية أخلاق حلمه الجميل.. ومثلما قدم رسالة في حياته قدم أيضا رسائل كبرى يوم وبعد شهادته..
الشهيد أسامة الأشول
طموح تجاوز الأعمار
كانت أمه تحكي لنا آخر ما دار بينها وبينه قبل توجهه إلى ساحة التغيير بصنعاء، يوم خرج أسامة من بيته بعد أن ودعها، لآخر مرة منذ بدأت الثورة حيث كان يذهب إلى البيت لكي يغير ملابسه ويسلم على أمه ثم يعود إلى الساحة.
كان طموح أسامة كبيرا من خلال حديثه مع أمه، فالبلاد من وجهة نظره سوف تتغير للأفضل وسوف يتحسن وضع المواطن ويأخذ الموظفون راتبا أكبر..
أسامة علي يحيى الأشول، هو الأخ الثالث من بين ستة إخوة ذكورا وإناثا، وكان ملتحقا بمؤسسة اليتيم التنموية في الصف الأول الثانوي، ويحلم بأن يكون مهندسا من خلال دراسته في مجال الألمنيوم مع اثنين من إخوته في مؤسسة اليتيم ويسكن عند أعمامه حيث البيت الجامع للأسرة..
في نظرات والدته حزن كبير، غير نبرتها في الحديث كانت تنبئ عن مخزون للشجاعة والحنكة، كان ولدها الشهيد أسامة يتزود منه كلما عاد إلى البيت للسلام عليها وتغيير ملابسه..
أسامة الأشول يبلغ من العمر 17 عاماً وكان شاباً حماسياً ومحبوبا من الكل حتى أن زملاءه وأحبابه صاروا يسمون الحارة بحارة الشهيد أسامة الأشول..
وسجلت له قناة الجزيرة مشهدا قبل استشهاده وهو يصيح بصوته رافعا أصبعين من أصابعه ويحلف: سيرحل والله إنه سيرحل..
الشهيد محمد قناف غنيم
من خولان الطيال.. مسور الحجلة ومن أسرة لها في النضال باع وشاعر من بني غنيم، ومن أجداده السمح بن مالك الخولاني.. سيد الفاتحين.
ولد الشهيد محمد قناف مرشد غنيم مع بواكير الوحدة اليمنية في1992م.. هو الأول من بين إخوته.. حافظ للقران ومدرس له، وكان على وشك الشهادة الثانوية.. وخاطب كان على عتبة الزواج.
كان شهداء جمعة الكرامة طلابا وشبابا في ريعان العمر ومقتبل الحياة.. لديهم أسر تنتظرهم في البيوت ولهم آمال وطموحات بحياة كريمة.. بعضهم جاء من مضارب القبيلة والبندقية لكنهم قدموا للعالم أجمع الصورة الحقيقة لحضارة القبيلة اليمنية وأصالتها. تلك الصورة التي طالما شوهتها الآلة الإعلامية للنظام البائد.
في جمعة الكرامة أجاد بلاطجة النظام الجريمة، ووزعت بنادقهم رصاص الموت على رؤوس أبرياء عزل، من كل محافظة وقرية وبيت.. ولأن خولان الأشمخ رأسا فقد أصابت رأسها أكثر من رصاصة.. ونفذت إحداهن في رقبة الشهيد محمد قناف حسين مرشد غنيم، قبل أن يكمل عمره العشرين.
وقبل الرصاصة زف والد الشهيد، لابنه الحافظ، في اتصال هاتفي.. بشرى حصوله على وظيفة مدرس لتحفيظ القرآن.. كان ذلك صباح الجمعة الجامعة، في الثامن عشر من مارس 2011م، فرد على والده ببشرى أخرى وخبر سار سيخبر به والده بعد صلاة الجمعة..
تلك الظهيرة اختلط الدخان بالدم وصوت الرصاص بنحيب سيارات الإسعاف..
حينذاك كان سهيل اليماني يعرض في شاشته صور نجوم جديدة، كان من بينها قناف الشاب، وشباب آخرون قالوا لأسرهم إن لديهم أخبار سارة لم يفصحوا عن ماهيتها وجادوا بها سبقا صحفيا لقناتهم الأثيرة سهيل.
فرآهم الأحباب والأهلون هنا شهداء.. كلما ولى عن الساحة منهم عظيم شهدت من خيامها عظيما.
غنيم هو ثاني شهيد في جمعة الكرامة.. التحق بالساحة منذ بداية الاعتصامات مستقرا في خيمة أحفاد الفاتح السمح بن مالك الخولاني.
شجاع مقدام.. يهتم بزملائه وترتيب خيمته.. يخطب ويحاضر ويصلح بين الناس.. في الخيمة ولجان الثورة كان.. ومازال محمد قناف حاضرا ملء المكان..
ولأنه مازال حاضرا جاء سماسرة النظام يقايضون الأب بملايين الريالات لينسى دم ابنه الشهيد!! لكنه رفض وأبى.. فلله در الأب والشهيد.. وللمجد كل قطرة دم نزفت في المعترك.. فهل أدرك قابيل أن دم أخيه غير قابل للتفاوض والمقايضة والنسيان..
له من اسمه نصيب
الشهيد محمد عبده الشاجع
في قرية شاهقة في قمم وصاب.. جارة القمر، ومعلقة الضباب.. مسقط رأس الشهيد محمد عبده عبدالله الشاجع.. وفي رحابها الواسعة أطلق شهقة الحياة الأولى.. في تلك القرية النائية.. شأنها شأن كثير من القرى اليمنية، تقع خارج نطاق الخدمات المختلفة.. حتى بعد أن بلغت ثورة سبتمبر الأم ثلاثة عقود حين كان الشاجع في المهد صبيا.
اسمه هو صفته، فهو الفارس الشجاع.. وكغيره من أبناء وصاب، بمحافظة ذمار، لم يجد محمد الشاجع فرصة لإتمام دراسته في قريته، حال النظام المهترئ بينه وبين إتمام دراسته في مدرسة شهداء جعر الإعدادية..! فحزن لذلك كثيرا..
انتقل محمد إلى العاصمة صنعاء عله يجد فرصة عمل.. فباع العطور في وطن أصابته روائح فساد الحاكم بالزكام.. وفي حارة الزمر بصنعاء القديمة كان مستقره ردحا من الزمن البائد..
مع نسج الخيوط الأولى من أشعة شمس الثورة السلمية، انطلق محمد الشاجع صوب ساحة التغيير بصنعاء، ليسهم مع الجموع في المطالبة بالتغيير، وليصلح هذا العطار الشاب ما أفسده النظام الشائخ..
وفي جمعة الكرامة في الثامن عشر من مارس ألفين وأحد عشر، ارتدى محمد الشاجع أجمل ملابسه وتطيب بعطره المفضل..
في المقابل كان بلاطجة النظام، يتربصون بالمصلين والمعتصمين الدوائر.. ويعدون الكمائن على أسطح المنازل المجاورة..
وحين رص المعتصمون والمصلون صفوفهم، تلاشت روائح العطر مع الدخان المتصاعد والغازات.. وكان الشاب محمد الشاجع في قلب الحدث.. ناسيا أن يصطحب معه قارورة عطر من المحل لتلطيف جوٍ لوثه الأوغاد..! وحين لم يجد منح جسده للوطن مسكا أبديا، وبسمة عاطرة..
والد محمد في الستين من عمره أعلن عن فوزه بشهيد من صلبه هو الخامس بين إخوانه السبعة، وهو الذي لم يتجاوز عمره العشرين عاما مما تعدون، بل تجاوزه بمئات القرون، بحساب الثورة وتقويم الزمن اليمني الجديد..
لا تزال قوارير العطر المتراصة في الدكان الذي كان يعمل فيه الشهيد، تتذكر عطرا بشريا مر من هناك..
ولقارورة عطر العود، مع الشهيد محمد الشاجع حكاية عشق وذكريات غرام.. فهي عطره المفضل الذي تعطر به صباح جمعة الكرامة..
ومن ذكريات الأصدقاء أن الشهيد الشاجع رتب لإقامة حفل زفافه في الأجازة!! لكن رصاصة الغدر استقرت فوق عينه قبل الصيف.. ارتدى ثياب العرس.. في صورة فوتوغرافية، تركها ذكرى لكل من حضر زفاف عرس الاستشهاد، من مبتدأ الأرض إلى سدرة المنتهى..
الشهيد حامد عبد الله اليوسفي
شهيد من أجل اليمن
“ياقارئ رسالتي لا تبك على موتي فاليوم أنا معك وغداَ في التراب, فإن عشت فإني معك وإن مُت فتبقى الذكريات.. ويا ماراً على قبري لا تعجب من أمري، بالأمس كنت معك وغداً أنت معي”..
بأحرف من نور الثورة، كتب حامد اليوسفي هذه الكلمات، معلنا بذلك نفسه أول يوسفي ينظم إلى قافلة الشهداء، في الثامن عشر من مارس 2011، بعد رحلة خلود سطرها بعمله كفني مساحة، معدا للرسومات المساحية، وخبيرا في تشغيل موقع العمل بشكل سليم، وعمله في رفع المساحة في مطار صنعاء الدولي، وسنوات أخرى مع الهيئة العامة للأراضي والمساحة والتخطيط العمراني، وعدد من المشاريع الأخرى
ويقول صديقه الثائر عيبان اليوسفي، لقد كتبها لنا قبل أيام من استشهاده في غرفة الدردشة ولكثير من الزملاء عندما تسرب إلينا قليل من الإحباط بسبب بطء نجاح الثورة اليمنية.
هكذا إذن رثى المهندس الشهيد حامد عبد الله شايف اليوسفي، 27 عاما من عمره، وأعلن نفرته في سبيل نجاح ثورته عبر رسالته الأخيرة لجميع الثوار في ساحات التغيير، غير عابئ ولا مستبطئ نتيجة العمل الذي يقوم به.. لكأنه كان يشعر بأن على الطريق ثمة أشواكاً أخرى تثقل كاهل الثورة، وتحول دون تحقق نتائج سريعة وملموسة.
“كم نحن من القرية متواجدون في الساحة..؟!”.. سأل حامد صديقه ذات لقاء لم يدم طويلا، ليلة جمعة الكرامة، واقفا على باب خيمة بني يوسف.. دون انتظار الجواب.. يبتسم ثم يضحك ويتحدث بثقة: “لا بد أن نضحي من أصحاب بني يوسف ولو بشهيد واحد”.
خيمته الصغيرة التي نصبها في ساحة التغيير بصنعاء، شاهد وفاء ونبتة حرية في صحراء وطن ظمآن للاستقلال والتحرر من إسار كاد يفقده سنا المجد وعنفوان التاريخ.. كان يفتش بين زمهرير المساء وحر الظهيرة، باحثا عن المجد والكرامة والحرية قبل أن يبحث عن وظيفته, وتهيجه ربما لحظات التصفيق التي حظيت بها ثورة القيروان وأرض الكنانة.. أن تموت يا صديقي، فذلك يعني أن يمنا يولد من جديد في بني يوسف، والحجرية، وتعز، وفي كل ربوع وأنحاء السعيدة وآزال وأرض سام. ستعرف مشاريع حامد اليوسفي التي كان يعكف عليها وحيداً في غرفته طريقها إلى النور.. لن تموت، لن تذبل أزهارها. لم يعد الوطن بحاجة إلى هبة رئاسية تسمى جوائز الرئيس في مجالات العقل والتفكير والعاطفة والعقيدة، سينتهي كل ذلك ويبقى اليمن..
ربما كنت الأسبق إلى أرض الساحة ومدينة النضال، وتركت فينا بصمات واضحة، غير أن شعبا بأكمله جاء ليلبي شغفا كان يملؤك وطموحا كنت تصبو إليه.. وهاهي ساحة التغيير التي لم تلتقط لنفسك فيها صورة واحدة، تعج بصور الشهيد حامد اليوسفي.. وهل صور الشهداء إلا انعكاسا لأعمالهم وترجمة لأدائهم ونجاحهم في احتضان ورعاية اللحظة الثورية..
الشهيد محمد محمد العلوي
الساعة الآن: هي الغد إلا قليل.. لحظات فقط، ونبلغ تمام الفجر.. من هنا يبدأ اليمن الجديد بتوقيت الشهيد محمد محمد علوي الوصابي..
زمن جديد يصعد من بين ألوان العلم والدم الغالي فنستيقظ على الوطن.
وأبو الشهيد شيخ كبير.. وجهه يختزل تضاريس وطن، ونظرات عينيه إدانة، وتاريخ من الرمد.. يعد لنا متكئا
ثم يفتح صدره فإذا هو سنوات غربة وشوق وعذاب.. يبدأ الحديث من نقطة الوقف..
فهذا الذي تعرفه يمنيا في صمته وصوته، قضى نصف عمره في السعودية وزار تركيا ورأى الفرق واضحا بين الوطن المنفى، والمنفى الوطن.
عاد والد الشهيد محمد علوي إلى مسقط رأسه، فوجد يمنا مكسورا، كعشبة الخريف، ورأس ابنه الأكبر رمزي مثقوبا بالرصاص. قتلوه في أحد الأسواق قبل أكثر من عامين وتفرق دمه بين المحاكم والحكومة.. فاقتص الشهيد محمد محمد علوي لدم شقيقه رمزي، بدم آخر هو دمه..
الساعة الآن المستقبل إلا قليلا..
وكان الشهيد محمد علوي الوصابي المولود في الحديدة.. توقظه رائحة الأرض في الصباح المبكر.. وجاءت الثورة فجاء على عجل وأمل.. حاملا في يمينه شمسا واثنتين وعشرين وردة من باقة عمره المديد..
لم يكمل علوي الابن دراسته الثانوية.. لم يدخل الجامعة.. لكنه لم يترك فضيلة إلا ودلت عليه.. كان كأي شهيد كل شيء بالنسبة لأهله وذويه.. وصار كأي شهيد كل شيء للوطن والناس.. أراد علوي أن يكون مستقبلا زاهرا للجميع فكان.
شاهد وشهيد هو محمد علوي.. وقبل أن تصعد رصاصة سافلة، ناصية جبينه العالي كان هنا.. يوثق اللحظة ويصوب عدسة الكاميرا التي اقتناها لهذا الخصوص في كل رصاصة..
ولحظة رأى البلاطجة العدسة تقتنص المُدية والجزار، اقتنصوه في جريمة أرادوا لها أن تمر بدون شهود..
الساعة الآن.. الشهيد محمد محمد علوي..
لم يتبق من الوقت سوى لحظات فقط ويبدأ الزمن، واليمن من نقطة الوقف تماما.. إنها لحظات شوق، استشرفها الشهيد بنفسه، في 18 مارس 2010، أي قبل عام كامل من استشهاده، في هذه العبارة التي كتبها بخطه الجميل، أمام دكانه.
هي الجمعة.. فيها يصلي الناس ويستريحون.. عيد المسلمين ويوم إجازتهم الرسمية إلى ما قبل 18مارس..
هي الجمعة.. يوم الثورة والقيامة.. وهي الآن اليوم الأول من الزمن والتاريخ الجديد.. زهاء مليون مصل على صعيد الثورة.. وكان علوي هنا.. كان صلاة ودعاء وشاهدا وشهيدا واثنتين وعشرين وردة من عمره، تكفي خريطة الوطن وكل المحافظات.
ها هو الشهيد محمد العلوي، وهاهم رفاق المسك وتاج الوقار، في منظر يدمي القلوب كلما انضم مفجوعون جدد على شهدائهم، في ذلك اليوم الحزين.. وكان أخوه عبد العليم ينظر إلى أسر الشهداء الذين كانوا يتوافدون إلى داخل المستشفى الميداني، طيلة خمس ساعات، فهان عليه ما هو فيه واكتفى بالدعاء على القتلة والمجرمين ومتوعدا إياهم بالاقتصاص لأخويه، من خلال سلمية الثورة، حتى لو كلفه ذلك دما غاليا.. آخر..
الساعة الآن.. العلم والنشيد والسارية
الأسود.. يرمز إلى نظام صالح البائد، وآخر الدخان.
الأبيض.. يرمز إلى الفجر (محمد محمد علوي)..
أما الأحمر.. فلون الدم والثورة والجمر.
والانتصار..
الشهيد ماهر رزق ماهر...
الباحث عن وطن
أنا فرح بنت الشهيد ماهر رزق محمد ماهر من المحويت..
وطني الحبيب ما زلت صغيرة لأهدي، لكني قدمت لك أغلى كلمة علي: بابا.. دمه لك فداء، سأبكيه كل صباح، لأذكر أنه ذهب لأعيش حرة، لأتنفس صدى اليمن تحت عبير دموع أمواج الأمل.. سأقول: حبك بابا تحت سماء وطني الصافية، وعلى ترابه الغالي. سأقبِّل ثراه كل صباح، مع شروق الشمس وغروبها، سأصرخ بأعلى صوتي للعالم كله، أحبك كما أحب بابا، فلأجلك ذهب أبي وتركني، فأنت يا وطني أبي..
تختصر كلمات هذه الطفلة قصة وطن كبير عاش في قلب والدها، يقتات من جهده وماله ووقته وراحته، حتى إذا اكتملت أفراح الروح سقاه من شرايينه دماء زكية طاهرة..
ثلاثة وثلاثون عاما هي عمر الشهيد ماهر رزق محمد ماهر، لم يذق فيه هؤلاء الطيبون طعم الحرية، كل هؤلاء وأكثرهم قيمة وأنفعهم لأهله ومن حوله.. إذ كان يسعى لتأسيس أعمال تكافلية واجتماعية..
حالت الظروف بينه وبين دخول بوابة الجامعة لدراسة الهندسة كما كان يحلم، فأسند ظهره على أحد أسوارها.. وباقتراب الثورة من منزله الواقع في شارع القاهرة، شعر ماهر رزق ماهر بأن مستقبلا مشرقا يلوح في الأفق. ودع انطوائيته ليخرج إلى عالم فسيح تشكلت ملامحه في تلك الساحة المحيطة بمجسم الإيمان يمان والحكمة يمانية بجولة الجامعة الجديدة، وفي منتصف فبراير من العام 2011، غادر ماهر البيت لينخرط في ساحات الشرف والفداء، التي لا تبعد عن منزل والده سوى بضعة أمتار، هي ذات المسافة بين ماهر والوطن..
حيث نصب خيمته الأولى مع فتية ربما سمحت لهم الظروف بدخول ذلك الحرم القصي، لكنهم خرجوا منه إلى رصيف البطالة، إذ الوظائف الرسمية تباع وتهدى بعيدا عن الشهادات والمعدلات..
توفي والد ماهر عام 1999م، فصار ماهر أبا للجميع، سبعة عشر أخا وأربعة أبناء وزوجة وأم مكلومة..
لم يكمل بعض أشقائه التعليم فاتجه بعضهم للعمل الحر طلبا للرزق، حيث على طريق والدهم في المقاولات والبناء..
مع التسليمة الأخيرة في صلاة جمعة الكرامة في الثامن عشر من مارس 2011، بدأ العدوان على ساحة التغيير بصنعاء وسمع ماهر صوت الرصاص يقتل إخوانه ورفاق نضاله عند المركز الطبي الإيراني، فانطلق أسرع من الصوت والرصاصة.. انطلق إلى هناك حوالي الواحدة والنصف ظهرا.
حوالي الساعة الثانية شعرت زوجته بأن ماهر لن يعود، وتناول الجميع غداءهم على وقع أصوات الرصاص، بدون ماهر..
وهناك اصطادته همجية الغدر والخيانة، بجوار جدار الكرامة حيث كان ماهر يبحث عن وطنه، حتى لو اقتضى الأمر أن يدفع الثمن وطنا بدم، حرية بروح غالية إذ يولد الوطن من وتد خيمة وقبر شهيد..
انتقلت الروح إلى بارئها، وتفرق إخوانه على المستشفيات الخاصة للبحث عنه. كانت أول خزانة فتحها أخوه طلال في ثلاجة مستشفى العلوم والتكنولوجيا مرقدا مؤقتا لجثة أخيه ماهر. كان ذلك السادسة من مساء جمعة الكرامة 18 مارس 2011م.
سكنت روح ماهر فيما روح أمه لم تسكن، ولم تصدق رواية إصابة ولدها في رجله..
نصب ماهر خيمتين، وثالثة عند مليك مقتدر.. وصار منزله بالنسبة لأهله جزءا من خيمتهم وليس العكس، كأنها تفوح برائحة الشهيد. تدعو لهم أمهم باستمرار بأن ينصر الله ثورتهم، وتعد لهم ما يحتاجون من خدمة خلال فترة اعتصامهم، فيما تحضر الأخوات معظم فعاليات ساحة التغيير، ويبقى الأطفال الأربعة وأقاربهم يترددون على خيمة شهيدهم، يلعبون، يمرحون، يصلون مع الكبار في جماعة واحدة مع إمام ساحة التغيير.
لن يعود السيف إلى غمده، لن تعود السهام إلى أكنتها، لن يعود الشباب من الساحات، إلا وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، لن يعودوا إلا وقد بلغ النزال كش ملك!! صورة لكل البيادق البيضاء وهي تحاصر الملك الأسود في موقعه على رقعة الشطرنج..
الشهيد محمد يحيى الثلايا
ميراث الاستشهاد
الثلايا.. الشهيد الكبير يحضر من جديد في ساحة التغيير بصنعاء، يحضر في صورة بطل من هذا الزمان، ينتمي إلى ذات المكان المسكون بتاريخ من العظمة والكبرياء. “ثلا” مدينة الحرية والأحرار، التربة الأم، التي أسكنت روحها في الجوار، في المدان بعمران.
يشرق أحمد بن يحيى الثلايا بعد 55 سنة، في محمد حسين الثلايا، شهيد جمعة الكرامة. تبدو الذكرى ولادة، مجداً مستعاداً.
عشية استشهاده، وفي خيمة من وجوم وذهول وعلى أضواء الشموع، كان رفاقه يغرقون في صمت دامع. يقلبون أعينهم في فراغ الفجيعة مشيعين بأسىً قمرهم الذبيح.
لم يلعن محمد شعبه لحظات استشهاده كما فعل الثلايا الكبير، حين أراد له الحياة وأرادوا له الموت، لأن شعبه كان يحيط به، وبكاه بدمع غزير.
عند الجدار (الأخير) بجوار المركز الإيراني نصب خيمته، مهيئا نفسه لاحتمالات المواجهة والموت.
يقول صديقه الحميم علي الغولي: “قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلى صوت طلقات الرصاص اتصلت به، لم يفصح لي عن إصابته. سألته: أين أنت الآن؟ قال: بجانب الجدار. استفسرته عن نبرة صوته المتألم، رد علي: “عطشان”، وسمعته يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله، “الله يصيب علي عبد الله صالح، الله يصيبه”. ثم انقطع كل شيء. أصيب محمد برصاصة اخترقت جنبه. وهناك حيث روى الحرية بدمه، سقط عطشانا للوطن، وهو يوصي رفاقه بالصبر والثبات.
لم يمت الثلايا محمد.. ما زال بين أصحابه روحا تتردد على الخيام، يحيا عبقا ملء الصدور أقوالا وأفعالا حميدة تؤرخ لبطل جسور، كان في الفضيلة والطهر والنقاء والصدق موضع إجماع. “لا يُرى إلا متصدرا في كل الأمور” بحسب الشيخ هادي أبو سالم.
محمد: وجه جاد الملامح، شخصية محتشدة بالرجولة، يتمتع بإشعاع خاص، وجاذبية ملفتة، مع تواضع جمّ. اتسم بالإقدام والانضباط والمثالية والدأب والحرص الشديد على الإنجاز. كما امتاز بمواهب متعددة وقدرات متنوعة، هو مدرس اللغة الإنجليزية والرياضيات، الإعلامي، الخطاط والرسام، والقيادي البارز في الإصلاح الذي كان رئيسا لدائرته الإعلامية بمديرية المدان بعمران.
سيسكن الثلايا قلب هذا الوطن الذي وهبه حياته. لن يموت. سيبقى أمام أجيال اليمن بطلا متقدما على الدوام، يقودهم بروحه الحرة الأبية نحو الأعالي، شأن كل الشهداء العظام.
كبرنا بك يا أبا (أفنان)، اليمن بك الآن جنة، وارفة الأفنان والأغصان، كبرنا بك يا أبا (بنان)، كبرنا بك يا أبا (بتول).. يا أبا الرجال، ستظل حيا تتعهدنا بالرعاية، تغمرنا بالحب والحنان، تعلمنا معنى الفداء والتضحية، معنى أن نكون. يرحمك الله أيها الشهيد الكبير.
ما يخفف شعورنا بالفقدان أنك ملأت حاجتنا إلى العظمة، ستظل حياً في الدروب التي بذرت فيها الحب. ستظل حيا في عيون الصباحات البهية، تشرق في الكلمات، وفي الأفكار. لن تخلو المدرسة منك أبدا، أنت الآن المعلم الكبير، درسك الشهادة، ومدرستك الوطن، فسلام عليك أيها الشهيد، يوم ولدت ويوم استشهادك ويوم تبعث حيا.
الشهيد محمد العريفي..
ثورة طلابية في مواجهة حكم شائخ
عند المركز الطبي الإيراني كانت ملحمة (محمد) الذي ربط رأسه بعصابة مطرزة بعبارة: “أنا الشهيد القادم”، أمام الجدار المفروض على المعتصمين، ظنا منهم أن جمادا يشبه الحاكم، بإمكانه أن يعيق وطنا من أحلام وأشواق بيضاء مجنحة..
صباح الجمعة 18 مارس، كان العريفي محمد عبد الواحد 18 عاما، الطالب في مدرسة الكويت- يعلم أنه سيواجه الموت نصرة لثورته، وهو ينطلق مئات الأمتار من شارع القاهرة إلى شارع الرقاص، كلما دقت طبول المدد، كجزء من حالة طلابية ثائرة في مواجهة حكم شائخ..
قال له أخوه أحمد على عتبة باب بيتهم الذي ذهبوا ليتوضؤوا فيه، “نلتقي في الساحة”!!، فرد عليه: “نلتقي في الجنة”. هكذا قالها، كالأبطال الذين يشعرون بقرب فوزهم واقترابهم من موعدهم.. فكانت الظهيرة موعده.
توهم السفاح أن غصنا نظيرا استهدفته رصاصاته، سيثير وحشة الطيور لتغادر أعشاشها في ساحة التغيير. انتهك قناصة صالح حرمة الصلاة، أحالوا الجمعة جمعة الكرامة، يوم قتل للبراءة المحتشدة بسلام ووداعة، اقترفوا أبشع مجزرة بحق الوطن.
نُعي محمد لأبيه المهاجر في سويسرا منذ زمن طويل.. وبقدر الفجيعة كان استبشاره باستشهاد ولده البطل الكبير.
كان فتى وسيما كاليمن، أنموذجا فريدا من جيل وثاب ملأ ساحات التغيير هديرا ثوريا. هز وجدان الوطن وأثار دهشة العالم.. رحم الله الشهيد الذي لم يتراجع ولم يجفل، بل ظل يهتف بصوت عال “اصبروا ياشباب.. اصبروا ياشباب.. إلى الأمام.. النصر قريب إن شاء الله”.. كما ورد في تسجيل مصور ونادر عن الشهيد قبل استشهاده بدقائق..
اخترقت رصاصة الغدر ظهر محمد فاستقرت في قلبه الغض المفعم بالحياة هناك حيث ارتفعت روحه، حال سقوط الجدار.
لم تخل خيمة بني عريف “وصاب”، ما زال أحمد العريفي الأخ الأكبر لمحمد مرابطا فيها بعد أخيه مصرا على البقاء في قلب الثورة، هنا حيث يخفق قلب أخيه الحبيب، الشهيد الحي.
الشهيد خالد الحزمي
من أجل يمن نظيف
تتقدمُ طفلَتُهُ رِينادْ، ذاتُ الأربعةِ أعوامْ.. تَقُصُّ الشريطَ إيذانا بافتتاح مَعْرضِ صورِ الثورةِ الشعبيةِ السلميةِ بساحة التغييرْ، بصنعاء احتفاءً بالماجدين.. تمرُّ بينَ أضواءِ الشمُوعِ، والنجومُ ثَمّْ.. ثُم تطبعُ على وجْهِ أبيها المضيءِ قبلةً خبَّأَتْها بين شفتيها منذ وقتْ.. تتوقفُ عدسةُ الكاميرا عن الدورانْ.. ربما أمامَ هذه القُبْلَةِ، وربما أمام تلك التي طَبَعَهَا الأبُ على خدِّ طفلتِهِ ولم تقتنصها عدسة المصور.
لا فرقَ بينَ شهيدٍ وشهيدْ.. لكن الشهيد خالدْ علي محمدْ الحزمي، الكريمُ الحنونْ، كما يصفه كل من يعرفه، عاش في الصدارةِ، وقضى نحبَهُ في ذاتِ الموقِعِ الذي عاشَ فيه.. خطواتٌ قليلةٌ تفصلُ بين منزلِهِ في شارِعِ الرقّاصِ ومكانَ استشهادِهِ قرب جدار جمعة الكرامة.. مثلما هي الخطوات التي تفصل بينه وبين حلمه الكبير..
بين كلِّ خطوةٍ وخطوة.. ثورةٌ وباقةُ وردٍ وغد، كانَ خالدٌ يزرَعُها على جَنَبَاتِ الطريقِ كلما مرَّ منْ هُناك، ولما لاحتْ بشائرُ الربيعِ ضمَّخَها بدمِهِ الغاليْ، ووُضُوءِ الصلاةِ لجُمُعةِ الكرامةْ، وآيات من سورة الأحقاف توقف عندها صباح ذلك اليوم.. ومضى ليستنشقَ عبَقَهَا وعَبَقَهُ الآخَرُون.
عملَ في لجانِ: الخدماتِ، والنظافةِ، والإعلام، وأسَّس مع زملائِهِ «الاْتِّحادَ العامَ لشبابِ الثورةِ اليمنية» بهدفِ ضمِّ جميعِ ائتلافاتِ ساحةِ التغييرْ، متعددةِ التياراتِ والاتجاهات، تحت مسمىً واحدْ. ومن أجلِ هدفِهِ صمَّمَ بنفسهِ شعارَ الاتحادِ، الذي تظهرُ فيهِ يدان متشابكتان، هما لخالدِ الحزميِّ ذاتِهْ.
لوطن نظيف، عاش خالد، ومن أجل غايته روى تربه الطاهر دونما تردد.. كان خالدُ الحزميّ يحلُمُ بيمنٍ خالٍ من الفسادِ والغبارِ والجراثيمْ. وبعد استشهادِهِ خرجتْ ساحةُ التغييرِ تنفيذا لوصيتِهِ في حملاتِ نظافةٍ، تحتَ شعاراتٍ مكتوبةٍ ومطبوعةٍ، تُجَسِّدُ قيمَ النظافةِ.. كان الشهيدُ الحزميُّ، الذي عمل في الدعاية والإعلان هو من أبدعها شعارا وواقعا..
وطنُ الشهيدِ الحزميّ هو طُموحُهُ الذي مَهَرَهُ بِدَمِه.. وأمَامَ هَكَذا تَضْحِيةٍ.. لم يكن لمستحيلٍ أن يوقِفَ هذا الطُّموحْ.. يُناقِش، يُحاوِرْ، يقدمُ البراهينَ والأدلةَ على كل ما يعتقدُهْ.. وفي قَبَسٌ من حواره مع شريكةِ عمرِهِ.. روته بنفسها، ما يؤكد ذلك ويؤيده..
رصاصتان قناصتان.. الأولى في رأسه فما طأطأ ولا انحنى.. والثانية في قلبه فنبض أكثر.. في الأولى: كبر وشهد، وفي الثانية: أطلق بسمة الخلود... لم يمت الشهيد الخالد، خالد الحزمي، على صدر الجدار ولم يفتح فيه ثغرة للنور فحسب، بل هدمه كله لبنة لبنة فأشرقت شمس الحرية بنور ربها. . وتنوي هذه الزوجة، الأم لثلاثة أبناء، والتي ترى أنه بموت زوجها انطفأ العالم.. إقامة متحف خاص بشريك حياتها أستاذ فن العلاقات والتسويق والشهادة.. يحتوي مقتنياته وآثاره وبعض الأمور التي لا تزال مثلما هي كما رتبها بيده..
بحثت زوجته عن أغلى وأجمل هدية تقدمها إليه في عيد ميلاده الأخير.. فلم تجد سوى صورته.. إنها أغلى ما لديها وأجمل ما في البيت وأحب ما في القلب.. هي أيضا صورة اليمن في عيد ميلاده الأول.. صورة تستحق أن يقيم لها التاريخ متحفا خاصا.. سيكون من تحفه النادرة، ذلك الخاتم الثمين، وتساؤل في صدر زوجة الشهيد: لماذا خلعه خالد من إصبعه وأهداه إياه صباح جمعتئذ؟؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.