هيأ صالح نفسه للحرب, لا للخروج , رأى نفسه - ربما - أكبر من أن يختار نهاية بن علي ومبارك . كانت الحرب مخرجه المختار , معارضوه من محاربي السياسة كانوا على يقين من ذلك , الرجل لم يعتد الخسارة أمامهم , ولقد مثلت المبادرة انتصاراً سهلاً لهم يصعب عليه تحمله والقبول به . المهزومون أبداً أمامه يكسبون من أول جولة خاتمة ماحقة له, يتلاشى دونها كل تاريخه الحافل بالانتصارات عليهم ,كان أقصى ما يفعله إخراجهم من معادلة الحكم . إقصائهم عن المشاركة ,الإطاحة بهم في كل إنتخابات ,لكنهم أخيرا لعبوها بحنكه , وظفروا بإخراجه من الحكم تماماً هو ونظامه . صالح لم يفكر قط أن زمناً آخر سيأتي كي يطالبه بالرحيل , وهو الذي تهيأ لبقاء مديد ما طالت الآجال وتكاثر الأنجال , الآن يحاول بشراسة الخروج من مأزقه بحرب , هي خيارة منذ البدء . حاصرت الثورة السلمية عنفه وقمعه بأكثر مما يتوقع , ومع كل اعتداء واستخدام مفرط للقوة , كان ضعفه يتعاظم ورعبه يشتد, احتضنت الساحات مجتمعا لم يختبره صالح , شعبا غير الذي تعلن عنه خطاباته , وطناً مختلفاً عما تعرضه وسائل إعلامه , جماهير تناضل من أجل إسقاطه بروح مشبعة بالحلم والسلم . القوة المسالمة فاجأت رجل العنف والحروب , الثورة اللينة كسرت سطوته . نسفت أوهامه ,مخزون الأشواق والأحلام تفوق على كل مخازن الأسلحة وأدوات الدمار , أستعصت رغبة الحياة على نزعات القتل ,أنجزت اليمن معجزتها الكبرى ,أعادت تشكيل نظرة العالم , بدى صالح أفسد من فيها ولاح نظام حكمه فوضاها الوحيدة , امتلأت ساحات الحرية بشعبٍ ثان , خالٍ من كل ما كان يصمه به الحكم العليل , شعب مكدود , شاحب نحيل الجسد , لكنه متعافي الروح غني بنبله ومبادئه وقيمه , لم يسكن القهر أعماقه , ولم يسلبه الفقر جوهره النقي . استيقظت في الروح اليمنية عصور العنفوان والإباء والشموخ , الإعصار الثوري الذي اجتاح المنطقة تولى جرف المخاوف المترسبة , فإذا اليمن في قلب الساحات ثورة عاصفة لا تهدأ ولا تستكين . مثلت ثورة اليمن صدمة للحاكم , وأربكت كثيرين بالنظر للتصورات النمطية عن اليمن وتعقيدات البنى المجتمعية وإشكالات القبيلة وانتشار السلاح , مضافاً إليها أضرار الحكم الفردي المزمن . راح صالح يبحثُ عن الحرب , يتحرش بالساحات , يتسلل من كل منفذ , يناوش الأطراف , يستفز عنف الأحلام الثاوية في الساحات , يحاول إيقاظ صوت البندقية المخرسة بإحكام والمتروكة بعيداً. الرصاص الذي استهدف رؤوس الثوار ,لم يقتل حكمة الثورة , القلوب التي اخترقتها الطلقات , غالبت حزنها , كتمت أساها , كما حبست مارد الثأر , لم تسمح لشرورها بالانطلاق , أنكسر صالح بمليشياته مراراً على الصدور العارية , تراجع طويلا خائباً مثقلاً بالأوزار , أستمر الشارع الصبور في سلخ مشروعيته , وإسقاط صورته , مازال بعنفه ممرغا على أنفه , تكاثرت عليه اللعنات وازدادت الثورة زخماً وانتشاراً , تقزم وطالت قامات الثوار , إنطفئ وأستمر الشعب بالاشتعال , مازال ينهزم و يموت , والثورة تحيا وتنتصر . فرضت الثورة السلمية في اليمن مشروعيتها برضىً شعبي عام , واحتضان واسع لكل القوى , أكدت هوية وحدوية جامعة , وتولى التوق الشامل للتغيير مسؤولية حسم التباينات , وتعيين المسار , وتوحيد القرار . هي ثورة شعب ضد حاكمٍ أنقلب عليه 33 سنة . يحسب صالح أنه وجد الحرب التي يبحث عنها هنا , في الحصبة . يظن دخوله في معركة مع أولاد الشيخ عبد الله مخرجه المتاح ,جرب الرجل ألاعيب خروج كثيرة خائبة , كان أسوأ ما مني به : انسداد الأفق الدولي دونه , حسم العالم مقتهُ له , لم يعد أحد قادر على أن يخفي شعوره بالنفور والازدراء . وأمام شعب يبحث عن حاكم يحميه , ويدافع عنه , ويراعي مصالحه , قام الرجل بمشهد فضائحي أخير , أستخدم فيه ممثلين معروفين بإتقانهم أداء دور القاعدة ,محاولة بائسة لاستعادة حظوة مستحيلة , لدى حلفاء ذاقوا ربما من ابتزازه ما يفوق رعبهم من القاعدة ,يدرك الأمريكان أن نظام صالح في حالة نفوق , تستوجب قطع النفقات, ولا مجال للنفاق والمحاباة الآن. في زنجبار كانت رقصة فاضحة لحاكم مترهل طاعن في السن والإثم , يقول لجمهوره المكره على المشاهدة : أنا لا ارقص من أجلكم بل من أجل الآخرين , صادم أن يقول حاكم يجب أن أبقى فقط لكي أحمي مصالح أمريكا منكم , كأنما الشعب هو العدو والحاكم كلبٌ كبير , مكّلفٌ بنهشه والنباح في وجهه حراسة للعوالم . يريد الرجل خلط الأوراق , في لحظة متأخرة , ما عاد فيها متسع للغش والتذاكي وإلقاء الفزاعات الحارقة . يستهدف الرجل الثورة إذ يستهدف أهل الحصبة وأهالي نهم وأرحب والحيمتين , كلهم أهل الثورة , وكل حربٍ تشنها كتائب صالح ومليشياته ضد أي جهة في اليمن تستهدف الثورة السلمية . الحرب الشرسة التي يشنها صالح ضد الشيخ صادق الأحمر وإخوته على مدى 10 أيام مخلفةً قتلى وجرحى بالمئات , وآلافا من النازحين , ودماراً شاملاً وحرائق لا تنطفئ داخل الروح , وعلى الواقع هذه الحرب ليست أهليه, وليست معركة , قابلة للفرجة والتسلية والجلوس في انتظار من الغالب , لا تكافؤ بين الطرفين , هم مواطنون في مواجهة عصابة تستخدم سلاح الدولة لقتلهم , هم مواطنون يحاربهم صالح بغياً وعدواناً وإنتقاماً . وعلى الوطن كله أن يهب لحمايتهم , وعلى الثورة واجب دعوة المؤسسة العسكرية المنظوية للثورة بالقيام بحمايتهم والدفاع عنهم بحسب مسؤليتها الدستورية وإلتزاماتها الثورية . على الثورة السلمية , كونها المحرك الرئيس للأحداث , والفاعل الأساس المحدد لمصير اليمن ,أن لا تسمح للحرب التي يفجرها صالح بأن تُعيد تموضعها كحلقة أضعف , خفيضة الصوت , داخل ساحة مهددة تصطخب بدوي الطلقات . تتسيد الثورة المشهد , بما يجعلها عصية على التحول إلى هامش وضع ناشئ , هي الآن التطور الأهم , أخطر ما يحاوله النظام : جعلها أزمة تابعة . في حربه الظالمة ضد آل الأحمر , يشتبك مع مسار هائل قطعته الثورة , على صعيد القضايا الوطنية الكبيرة , من المهم الانتباه إلى ما يمكن أن تقصفه الحرب , من مكتسبات الثورة السلمية , إذا ما استمرت دونما تطويق جاد . ما معني أن تسكن الساحات السلمية وتنام في ظل مدائن تحترق , تقصف الوحشة ليلها والنهار. على الثورة أن لا تسمح لصوت المعركة أن يعلو على صوتها , أن لا تقبل وهي في ذروة الفعل التحول إلى ضحية مكشوفة منتظرةً ما تقرره الحرب على مستوى المصير والصيرورة . أحتمت الثورة بذاتها منذ البدء , تسلحت بسلميتها , أستمدت قوتها ومشروعيتها من قضيتها العادلة , رفضت كل مبادرات الحماية , أثبتت يوماً بعد آخر أنها حامي اليمن الكبير , وقوتها التي لا تقهر ,وعلى مدى شهور أربعة واجهت حملات القمع والعنف الممنهج ببسالة والتزام وانضباط لافت , لم تزدها الوحشية إلا صلابة و سمواً ,قدمت مئات الشهداء وآلافاً من الجرحى وتضحيات كثار , أثمرت حياةً ,حباً ,إصراراً وبعثاً جديداً للوطن , لم تثمر نقمةً ولا أحقاداً ولا شعوراً بالوهن أو الإنتقاص . مضت ثورتنا على يقين محقق بالخلاص , وما زلنا نزداد كل يوم قوةً وإيماناً بصوابية الخيار . البقاء على هامش الحالة الناشبة ,ومع استمرار المواجهة وما تبعثه بسالة المقاومين من دهشة وإعجاب , أمور قد تدفع البعض إلى إعادة تأمل الذات المعتصمة منذ شهور , بمنظار مشوش يبخس مكاسب سلميتها ويعلى من شأن العنف المتمثل في الدفاع الباسل المشروع عن النفس . مؤسف أن ننسى فروسية وشجاعة أبطال هذه الثورة المسلحين بأحلام بيضاء وجباه عالية الذين مثلوا الجبهة المتقدمة في اختراق مواضعات السطوة المدججة بأدوات القتل.
الشعور بالاسترخاء في ظل جو مشحون متوتر , فقدان الوجهة , وانفلات الزمام من يدي ثائر عاش شهوراً صانعاً للفعل وموجهاً للحدث , يقول فيسمع العالم أجمع , كل ذلك قد ينمي إحساساً بالضياع والخيبة , والكثير من المشاعر والأفكار والخواطر السوداوية المقبضة ,ما يعني أن عملاً كبيرا ينتظرنا داخل الروح وعلى الأرض , كي لا تسيح الثورة ولتتماسك الساحات وسط النيران المستعرة . نحن من يدير معركة التغيير , يجب أن لا نترك هذه الحرب كي تديرنا , و تدمر معنوياتنا , وتستهدف المعاني السامية التي كرستها وجذرتها ثورتنا السلمية . على ساحات الثورة أن تكف عن الانتظار ,عليها أن تبادر كما هو شأنها منذُ البدء ,هي الشرط الجديد وأم كل الشروط ,ويجب أن تعي أن لا وضعاً مستحدثاً , قادرٌ على تعويقها الآن , هي اكبر من أن تؤدي دور الأطرش في هذه الحرب , عليها أن لا تقبل القصف بالتبعية . حاربت الثورة ، وربحت بأدواتها السلمية على مدى ىشهور أربعة،وما عاد بمقدور الخفة أن تهزمها بكل سلاحها الثقيل.