سلاح وهدية حج للشاب الجريح الذي اثار اعجاب الجميع في استقبال العليمي بمأرب    الوية العمالقة تتحدث عن طرد الحوثيين من المحافظات الجنوبية    أول "قتيل أمريكي" في البحر الأحمر .. ومحمد علي الحوثي يعلق!    صادم للانتقالي.. الكشف عن تحركات أمريكية لحل "القضية الجنوبية" بعد تصريحات الرئيس العليمي وفقا لهذه الخطة!!    السد يتوج بطلاً لكأس أمير قطر    الهيئة العامة لحماية البيئة تشكو من تدخلات وزارة الزراعة في رقابتها على مبيدات الصحة وتكشف عدم التنسيق معها    الامتحانات وعدالة المناخ    مصدر مقرب من انتقالي شبوة يصدر تصريح صحفي ردا على بيان حزب الاصلاح فرع المحافظة    ترحيب عربي ودولي بقرار "العدل الدولية" وقف الهجوم على رفح ومطالبات بتطبيقه فورا    غموض يكتنف وفاة الطفلة حنين القطوي بعدن: لا أدلة على الانتحار    مليشيات الحوثي تصدر بيانا بشأن منعها نقل الحجاج جوا من مطار صنعاء إلى السعودية    السعودية تعلن عن الطرقات الرئيسية لحجاج اليمن والدول المجاورة للمملكة للتسهيل على ضيوف الرحمن    كيف يزيد الصيف أعراض الربو؟.. (نصائح للوقاية)    استشهاد وإصابة 4 مدنيين بانفجار لغم من مخلفات المليشيات غربي تعز    حملة طبية مجانية في مأرب تقدم خدماتها لأكثر من 839 من مرضى القلب بالمحافظة    انهيار جنوني لأسعار الصرف وقفزة سريعة وجديدة للسعودي والدولار أمام الريال اليمني مساء اليوم الجمعة    يامال يودع تشافي على طريقته الخاصة    رئيس تنفيذي الإصلاح بحجة: الوحدة نقطة تحول مهمة في تأريخ اليمن الحديث    مصرع قيادات حوثية بارزة في انفجار غامض بمنزل صالح!    وزير المياه يناقش آلية التنسيق والتعاون مع مجموعة المانحين الرئيسيين لليمن    اليابان بطلة العالم للجودو "أبوظبي 2024"    قرارات مفاجئة لنجمين في الهلال والنصر السعوديين قبل النهائي    مانشستر يونايتد يقرر إقالة إيريك تن هاج    توقيع اتفاقية بين اليمن والامارات بحضور وزير الخارجية.. والكشف عن تفاصيلها    عالم يرد على تسخير الإسلاميين للكوارث الطبيعية للنيل من خصومهم    بعد استراليا ..تحرك اوروبي وشيك لمواجهة تصاعد تهديدات الحوثيين للملاحة الدولية    الفن والدين.. مسيرة حياة    عن طريق أمين جدة السعودية.. بيع عشرات القطع الأثرية اليمنية في لندن    أحدث ظهور للفنان ''محمد عبده'' بعد إصابته بالسرطان.. كيف أصبحت حالته؟ (فيديو)    احباط تهريب 213 شخصًا من اليمن ومداهمة أوكار المهربين.. ومفاجأة بشأن هوياتهم    دورة الانعاش القلبي الأساسي للطاقم الطبي والتمريضي بمديرية شبام تقيمها مؤسسة دار الشفاء الطبية    بصعوبة إتحاد النويدرة يتغلب على نجوم القرن و يتأهل إلى نصف النهائي    الدوري الايطالي ... سقوط كالياري امام فيورنتينا    تصحيح التراث الشرعي (32) أين الأشهر الحرم!!؟    محاولات التركيع وافتعال حرب الخدمات "يجب أن تتوقف"    المهندس "حامد مجور"أبرز كفاءات الجنوب العربي تبحث عنه أرقى جامعات العالم    الروس يذّكرون علي ناصر محمد بجرائم 13 يناير 1986م    السعودية تقدم المزيد من الترضيات للحوثي    إعلان سعودي رسمي للحجاج اليمنيين القادمين عبر منفذ الوديعة    رونالدو يفاجئ جماهير النصر السعودي بخطوة غير مسبوقة والجميع ينتظر اللحظة التاريخية    احتجاز نجم نادي التلال العدني وثلاثة صيادين في معاشيق: نداء عاجل لإطلاق سراح أبناء صيرة المقاومين    نجل القاضي قطران: والدي معتقل وارضنا تتعرض للاعتداء    منارة أمل: إنجازات تضيء سماء الساحل الغربي بقيادة طارق صالح.    بنك اليمن الدولي يرد على شائعات افلاسه ويبرر وقف السحب بالتنسيق مع المركزي .. مالذي يحصل في صنعاء..؟    بنك مركزي يوقف اكثر من 7شركات صرافة اقرا لماذا؟    الحكومة تطالب دول العالم أن تحذو حذو أستراليا بإدراج الحوثيين على قائمة الإرهاب    سنتكوم تعلن تدمير أربع مسيّرات في مناطق سيطرة الحوثيين مميز    نايف البكري يدشن صرف البطاقة الشخصية الذكية لموظفي وزارة الشباب والرياضة    وزير الأوقاف يحذر ميليشيا الحوثي الارهابية من تسييس الحج والسطو على أموال الحجاج    شاب سعودي طلب من عامل يمني تقليد محمد عبده وكاظم.. وحينما سمع صوته وأداءه كانت الصدمة! (فيديو)    للوحدويين.. صنعاء صارت كهنوتية    ما بين تهامة وحضرموت ومسمى الساحل الغربي والشرقي    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زاهر نجيب، الأول على الجمهورية.. يموت بحمى الضنك
نشر في المصدر يوم 11 - 11 - 2009

الزمن: فجر 27 أكتوبر. المكان: مستشفى اليمن الدولي، تعِز. الحدث: حمى الضنك، الطاعون الصغير الذي ينهش حدقات المدينة الحالمة. عاد "زاهر" إلى تعِز لفترة قصيرة يحمل أوراق القبول من جامعة الاسكندرية: طالب دكتوراه، قلب وأوعية دموية 30 عاماً، فقط. صديقي زاهر، يكبُرني بعام دراسي واحد. عرفتُه صباح يوم صيفي معتدل في تعِز 1996م. كان اسمُه آنئذٍ: زاهر نجيب مجاهد علي، قبل أن يصبح: الدكتور زاهر، فيما بعد. لم يحدث أن حفظت الاسم الرباعي لأيٍّ من أصدقائي، لكن الأمر مع اسمه مختلف تماماً. في ذلك الصباح كانت وسائل الإعلام تطير باسمِه: الأول على الجمهورية في القسم العلمي.

اقتسم المركز الأوّل مع هشام طاهر الحربي، أحد فلتات ريف تعز النادرين، الذي اتّجه إلى حقل " أمراض الغدد". يا للزَمن: لقد كنتُ دائماً ما أزوّد هشام الحربي بأخبار صديقنا د. زاهِر" إلا في خبر رحيله، فقد كان هشام الحربي صاحب الصدمة الأولى.

قبل أربعة أعوام خسر هشام الحربي أباه تحت وطأة فشل الوضع الطبّي في تعِز. في تلك الأثناء عزّاه د. زاهِر، وهو يغالب فقدان ثقته بالمستقبل اليمني، ويعده: سنغير القواعد يوماً ما. أمّا الآن، فإن هشام الحربي قرّر أن يعزّي نفسه برحيل صديقه الاستثنائي: حمى الضنك سيدة الموقف في تعِز، والجهات المعنيّة تهوّن من حجم الكارثة. أما القواعد فمن المؤكد أنها لن تتغير في زمن العقول البيضاء! يرفض هشام الحربي وزاهر نجيب هذه الاستعارة " العقول البيضاء" لكنهما يعتقدان أنها تحيط بمستقبلنا اليمني من كل جانب، على نحو يجعل من هذا المستقبل مجرّد ضبابٍ ( خائفٍ يترقّب)!
لنقف أمام هذه اللوحة : تعِز وحيدة تفرد قامتها أمام الأقدار؛ المرض ينهش أكباد أبنائها، حمى الضنك تدحرج الموتَ على المواطنين مثل صخرة امرئ القيس. الضنك، ذلك الفيروس الذي نشر الرعب في جبال ووديان الصين في القرن الثالث الميلادي، ها هو الآن يذرع المدينة جيئة وذهاباً لوحده، مطلق السراح وكأنه شيخٌ من شيوخ بلادي الأميين الأثرياء!

يصطحب فيروس الضنك طفيلَ الملاريا، ذلك الوباء الذي قضى على الاسكندر الأكبر ذاته، يُفسَح له المجال ليحمل من جثث أهل هذه البلدة حتى يرضى. ضع إلى جوارِهما: فيروس الكبد، وأمراض القلب. حدّد الكارثة بصورة أوضح: لا توجد إحصائية واضحة عن وفيات القلب في تعِز، لكن المؤكّد أن معظم المصابين باحتشاءات في الشرايين التاجية يموتون كالأغنام. فلا وجود لطوارئ قلب حقيقية في تعِز. الآن سيتذكر أصدقائي القرّاء أسماءً يعرفونها أصيبت باحتشاء شرياني ( جلطة في شريان القلب) غادروا فوراً إلى السماء، يزفّهم برنامج الرئيس الانتخابي! يبدو الأمر صعباً أن تتذكر اسماً بعينه تجاوز حادث قلب كهذا، مع إن الطب الحديث جعل الأمر يسيراً للغاية.
أخبرني عبد الرحمن المريش، أستاذ أمراض القلب في جامعة تعِز، أنه حُبس منذ سنوات لمدة ستة أشهر في مدينة تعِز. لقد حبسته حاجة الناس إليه، فلقد كان – في تلك الأثناء – استشاري القلب الوحيد في تعِز، الذي عليه أن يوفر الحماية لأربعة ملايين نسمة يسكنون هذه البلدة الموجوعة. لم يتغيّر المشهد كثيراً الآن، إذ أن وجود زميلين آخرين للمريش لن يجعل وقع الكارثة أقل ضراوة: استشاري قلب لكل مليون وثلاثمائة ألف نسمة! يا لها من نسبة! تُرى كم كانت النسبة أيام " الحكم الإمامي الكهنوتي الظالم البغيض ال..إلخ ".؟ من المؤكّد أنها كانت أقل من : طبيب قلب لكل مليون نسمة! بالنظر إلى تحولات العامل الديموغرافي، أولاً، ثم إلى ندرة أمراض القلب في ذلك العهد " البائد الجميل"!
كتب محمد المجاهد، مؤلف " تعز غصن نظير في دوحة التاريخ" عن مدينة تعِز: حين مرض السلطان توران شاه نصحه الأطباء بمغادرة مصر والسفر إلى مدينة تعز، في جنوب اليمن، للاستجمام، ففي هوائها الشفاء الناجع. لقد عمل توران شاه بنصيحة الأطباء، وشفي بالفعل. لكن ما حدث بعد توران شاه بمئات السنين أن محمد المجاهد، مؤلف الكتاب وحفيد الإئمة الرسوليين العظماء، غادر الحياة في حادث سير شنيع بمدينة تعِز لا يفسّره سوى الإهمال والتسيّب وغياب القواعد التي تحكم الحياة في هذه المدينة رغم مرور قرابة نصف قرن على مغادرة " الحكم الإمامي البائد الكهنوتي الظلامي"! المرض والفقر والظلام هي حدود مدينة تعِز من جهاتها الثمان. ومع رحيل محمد المجاهد، قرر أن يصطحب معه في الحادث ذاته نجله المهندس إياد، صديقي الذي لم أكن أتوقع أن أفقده بيومٍ ما، وبهذه البساطة الدموية المريعة. يا لهذه المدينة، لقد تركت بمفردها تواجه الأزمنة الضارية، فسحقتْ قلوبنا. ولا تزال كل يومٍ تلتهم عزيزاً علينا، في لحظة زمنية نوعية بالنسبة للعالم كله: احتلفت اليابان ب35 ألف نسمة تجاوزوا سن المائة.
إلى الآن، لا أزال في مرحلة الرفض: مات " زاهر نجيب مجاهد علي".لا لم يمُت، وإنما ذهب إلى ربّه يحمل مأساة هذه المدينة ليضعها بين يدي الملائكة والقديسين والشهداء. لم يمت، لكنه قتل. زاهر نجيب قتيل، وليس متوفّى، أكاد أشير إلى قاتليه! قتلته اليد الملوثة التي أحرقت الأرض والزمن. قتله "صاحب الوجه البغيض" الذي كان يحدثنا عنه الراحل صلاح عبد الصبور.

سيقول لأهل السماء: بلدتي كنانة الدنيا، وسوقها الأسود. بلدتي، موسمُ الموت البطيء والأحزان السريعة، المباغتة. قبل أسبوعين فقط حاولت، ولم أتمكن، أن أشركه في فاجعتي الشخصية: ابن عمّتي، وهو طالب ماجستير في الهند، بيولوجيا، يرقد بين الموت والحياة في تعِز إثر تعرّضه لعيار ناري قاتل مزّق كل ما يقدر عليه من أحشائه. وفضلاً عن المرض فإن الرصاص أكثر انتشاراً من الزغاريد، والموت أخف من كل شيء في هذه المدينة. لقد وصل في وزنه إلى أن أصبح أخف من عقول السادة في السلطة، ذوي أكثر العقول خفّة في التاريخ. هذا ليس من قبيل الذم ولا التشهير، فما يوم حليمة بسر! إنها تعِز، التي يتفرّغ فيها "الأمن" لملاحقة حملة الشهائد ويغض بصيرته عن كل ما من شأنه زعزعة الأمن من الجذور: الوباء، المخدرات، لصوص الليل، المسجلون خطراً، استغلال/ تهريب/ بيع أعضاء الأطفال.. إلخ. بينما تدخل السلطات المحلية الآن في طور جديد من أطوار شتات البلدة: شراء بقية الذمم الاجتماعية عبر توزيع مشروعات في الإنشاءات والطرقات على أفراد المنطقة الرمادية غير معلومي الموقف السياسي والأخلاقي ( مش مهم يا راجل تفهم في المقاولات ولا الهندسة، استأجر شيول ومجرفة وباتمشي الأمور). وصبّح يا حج إبراهيم على هيئة مكافحة الفساد، وقل لهم : مش تبقوا تيجوا!
كان زاهر طبيباً غاية في الذكاء، تخرّج بدرجة " ممتاز مع مرتبة الشرف" من جامعة القاهرة. وفي رحلته العلمية واجه حقداً شرساً من كل اتجاه. لم يكن يفسر هذا الحقد سوى شيء واحد:كان يحصل على مهارات ومعارف أكثر من المسموح بها، وفي زمن قياسي بالنسبة لوعي العقل الشمولي في الجامعة العريقة. كان شيءٌ واحدٌ يفسر ولعه بالمستحيل: إحساسه بحجم المسؤولية التي تقف أمامه، بلدته المحرومة من الصحة. قال لي بوضوح: كن شجاعاً، ولا تتردد، أخبر الأساتذة المشرفين على تعليمك أننا هنا في مصر لكي نتعلّم فقط تلك المهارات التي يحتاجها بلدُنا. كن قاطعاً معهم، وصريحا. اقتنعتُ بمنطقه، لكني لم أكن بمثل شجاعته، ربّما لأنه لم يكن يأبه كثيراً لأولئك الذين يزعجهم منطقه، ويا له من متمرّد نبيل، ستحتاج اليمن إلى ثلاثين عاماً جديداً كي تحصل على " زاهر" جديد، كما ليس مؤكّداً من أنه سيملأ فراغ الراحل العبقري.
سألته قبل عام ونصف: وماذا بعد يا زاهر، إلى أين تركض بهذه السرعة؟ قال: إلى اليمن. قلتُ له: هل ستسجل في برنامج الدكتوراه؟ رد بهدوء: لا. سأتأخّر قليلاً، أريد أن أعمل في اليمن، أعمل مع الناس والمرضى. أنا بحاجة إلى أن أعمل للناس قليلاً. كان صادقاً بقدر هدوئه وواحديته، فلقد ترك الاسكندرية وراء ظهره وعاد ليعمل في تعِز ريثما يبتدئ برنامج الدكتوراه.

لكن تعِز كانت أكثر قسوة معه مما يمكن أن نتوقعه من معشوقة مريضة. وهي التي طالما كابدت قسوة الزمن والإنسان والعسكر، منذ أن صرخ أهلها من أعلى قمة جبل فيها : بلدتنا تعِز على الغزاة والأعداء. بيد أن التاريخ يقول نصّاً فارقاً: سمّيت تعز بهذا الاسم لأن الوباء انتشر فيها قبل مئات السنين، سرق أرواح الصغار والكبار حتى قيل عنها: البلدة التي" تعِزّ" فيها الصحّة. رغم ميل أبناء تعز إلى تصديق رواية "البلدة التي تعِز على الأعداء". يا إلهي! كم أنت شبيهة بماضيك أيتها المدينة، كم أنتِ ابنة الفجيعة السرمدية، عابرةِ الزمان والإنسان!
الجهات الرسمية لا تزال تتحدث بقدر عال من الاستخفاف عن هذا الوباء. فوكيل وزارة الصحة ينكر أمام البرلمان وقوع أي حادثة موت بسبب الحمى، مع أن الطب يتحدث عن 1% وفيات في البلدان التي تتوافر على أنظمة طبيّة متطوّرة. تصادف، ربما، أن يقف النائب التعزّي " الزكريا" لكي يرد على وكيل الصحة بطريقة عملية: هذا كيس علاجي من الحمى، كلفني عشرة آلاف ريال يوميّاً. هكذا إذن، فإن الوباء لم يستثن الأطباء والبرلمانيين. وهكذا، أيضاً، تكون كلفة العلاج. من يقدر على أن يدفع هذه الكلفة في بلدة الفقر والظمأ والظلام؟
لم أكن أتخيّل أن المكان من المحتمل أن يتخلّى عن الإنسان بهذه البرودة. لعمري هذا أمرٌ مريع، لقد أحب زاهر مدينته وأهلها بكل وجدانه الشاب، إلا أن المدينة استرخت وتركته لهذا الجرم القاتل : حمى الضنك. إنها خيانة بليغة، في عرف هوى متصوّفٍ كذلك الذي حمله زاهر لمدينته..لكن.. هكذا، يترك زاهر فجوة ملتهبة في قلب المكان، ويأس أسطوري سيهوي في صدور أصدقائه لألف عام. كنّا نبتادل اسمَه أكثر من اسم بلدِنا، فقد كان أيقونة تدل من كل جهاتها على جهتنا الواحدة. كنا نجمع سيرته مثل حبّات المطر، وكانت تذهب في سبُل كثيرة، يجمعها خيط وحيد : يا للروعة، كم هو متميّز هذا الشاب وشجاع! كم هو قادرٌ على صناعة الإنجاز اليومي من حليب العصافير! إنه أحد أولئك الذين، عن غير قصد، خلقوا أسطورة التفوق العلمي والثقافي لمدينتهم، رغم كل ما في هذه الأسطورة من خواء وزيف. فلا تفوق في بلدة يستوطنها الجوع والمرض. يكفي أن نشير إلى مقولة: عليك أن تنشر الفقر في مدينة لكي تحول سكانها إلى مجرمين ، لنفهم جزءً من تلك الاعتمالات الحادة والغريبة التي تحدث في مدينة تعز.. الآن.
قلت لهشام الحربي وأنا أفقد إحساسي بالزمن: إنه خبر لا يمكن تصديقه. رد هشام بنبرة فاجعة: بالفعل، ولكنه مؤكّد رغم إنه خبر كاذب وحقير. خشيتُ أن أصرخ: مات زاهر. كل من كان بالقرب مني، وأنا أتلقى هذه المكالمة، يعرف زاهر معرفة يملأها الإكبار والاحترام. لن يصدقني أحد، من الأفضل أن أغادِر المستشفى الآن. كان الرمادُ يحط على الأرض، الأرض البعيدة، وعينا زاهر تنامان للمرة الأخيرة، وحيداً ، شجاعاً، كما كان. فشل جهازه التنفسي بسبب حمى الضنك، أو بمضاعفاتها، أو لأسباب تتعلق بتسمم بكتيري أصابه نتيجة تنقله في ثلاث مستشفيات.. المهم أن زاهر غادر هذا العالم وهناك متهم واحد كان فاتحة رحلة الخلود هذه: حمى الضنك.ظل قلبه يناوئ الهزيمة بعد أن تعقدت حالة المريض ودخل في جلطة كبيرة في الشريان الرئوي، طبقاً لطبيبه المعالج، إلى أن ارتخت أطرافه في الشوط الأخير، وسقط إلى السماء، مثل حنطة الشتاء، مثل أبطال الأساطير. سقط إلى الأعالي على نحو مهيب، يحمل معه أسراره الصغيرة، تاركاً لنا سرّه المشاع: ولكن تؤخذُ الدنيا غلاباً.هكذا إذن، غلبته الدّنيا، كما فعلت مع كل الشجعان، والعباقرة من قبَل الذين تهزمهم الأماكن المهزومة. فهنالك رواية عن الشافعي أنه قال: ولدتني أمي في صنعاء، فلما أن خافت عليّ من مضيعة اليمن أرسلتني إلى قريب لنا في مكة.

انطلق إلى الأعالي، عزيزي زاهر، فأنت سلالة فريدة، تصعد بلا توقف. ودعنا هنا على هذه الأرض المهزومة نكابد بؤسنا البشري، نحنُ الموجوعين الأبديين.. الذين أصبحنا، بفعل فاعل كبير، مجرّد نفايات آدمية، ولدتْ لتموت! لله ما أخذ وله ما أعطى، يا آل الدكتور زاهر نجيب مجاهد علي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.