يسرف مجلس القضاء كثيراً في تحسين أحوال القضاة المعيشية، حتى لا يكاد يترك باباً يمكن أن يضيف المزيد والمزيد من البدلات والعلاوات و... و... للإخوة القضاة إلا وطرقه (اللهم لا حسد)، حتى تحول المجلس فعلاً إلى (مجلس للقضاة)، وتحولت الهمزة تاء، واقتصر جل وقته على مراعاة مطالبهم على حساب كثير من المهام ذات الأولوية الملحة في تحسين أداء أجهزة القضاء ككل، وليت تلك الخطوات أثمرت في تطوير مدارك القضاة وتحسين أدائهم! لكن للأسف، كأنك يا أبو زيد ما غزيت. فلا يختلف اثنان (من خارج مجلس القضاة طبعاً) أن أداء المحاكم رديء ورديء جداً، وفي أحسن الأحوال قد تجد عدلاً ولكنه بطيء ومتأخر لا أقول أياماً أو أسابيع أو حتى أشهراً بل سنوات.. وليست كالسنوات! سنوات من الألم (بالنسبة للخصوم) والهم والقلق والسهر وقلة النوم والتوهان، وحريق الدم وارتفاع الضغط والسكري والقرحة والاكتئاب وضعف الشهية، والانطواء والحراف واصفرار الجلد والشيب، وتساقط الشعر والأسنان، وربما الخبل والجنون أو الإجرام والانتقام.
أعلم أن معظم السادة القضاة ومجلس القضاء –عفواً القضاة- سينعتون ذلك بالمبالغة لأن أيديهم في الماء، وليس الذي يده في الماء كمن يده في النار. وهل من الضروري أن نجمع لهم خريجي محاكمنا المبجلة من مجانين الشوارع ومرضى المصحات إلى بين أيديهم كي يصدقوا، أم يجب أن نجمع لهم إحصائية بالجرائم الجناية والثارات الناتجة عن تقصير وتأخير المحاكم البت في نزاعاتها لديها!؟
وأعلم أن كلامي لن يعجبهم ولن ينزل لهم من "زُور"، وهذا حال من اعتاد المديح، وقد يصفون كلامي في أحسن الظروف بالمبالغة والحقد وتصفية الحسابات، هذا إن لم يتم استدعائي للمساءلة القانونية بدعوى الإساءة للقضاء، ومحاولة النيل من مكانته وقدسيته وتأليب الرأي العام وتضليله والتجني على القضاة بما ليس فيهم بقصد الإساءة.. وليس بعيداً أن أقدم للمحاكمة كمارق خائن أفاق.. وتخيل عندها أن غريمك القاضي فمن تشارع!
وهنا أقول إن الحقائق الواضحة كالشمس الساطعة لا يستطيع أحد إخفاءها. وإذا كان القائمون على القضاء لا يشعرون بذلك فتلك مصيبة، وإن كانوا على علم (ومكارحة) فالمصيبة أعظم.
وأتساءل: ما قيمة بناء المؤسسات وبذل الغالي والنفيس لتشييدها إذا لم تكن غايتها الإنسان واحترام آدميته وصحته وعمره؟ يتراقص القائمون على القضاء على أنغام "كل شيء عال، وماشي، وزيّ الفل، والأمور تمام، وعلى أفضل ما يكون"، غاضين الطرف عن المشاكل والعثرات الإجرائية، رافضين حتى الاعتراف بها، والسعي الجاد والحثيث لمعالجتها وإصلاحها، بحيث لا تجد في ساحات العدالة استهتاراً بآدمية الإنسان، وينال حقه في العدالة بيسر وسهولة وفي وقت قياسي ومعقول وقبل طلوع الروح، عندها سأقف وقفة إجلال وتقدير واحترام لكل من ساهم في تصحيح المسار القضائي بدلاً عن الانهماك في سفاسف الأمور. ولا أقلل من الجهود التي يقوم بها المجلس من عزل ونفي وتشريد لكثير من زملائهم وإخوانهم القضاة بين حين وآخر، وقرارات مجلس القضاء خير شاهد على ذلك.. بل إن بعض المتخابثين يقول إن تلك المذابح (للقضاة) التي تتم بين حين وآخر هي بعلم وموافقة القيادة السياسية، والله أعلم! والذي يهمنا قبل هذا وذاك هو المواطن وآدميته التي هي بحاجة إلى المراعاة في شتى الميادين وأولها ميادين العدالة للقضاة والمواطنين.
وكما أن المواطن مطالب باحترام القضاء والوثوق به، فعلى القائمين عليه تعزيز هذه الثقة ابتداءً وترسيخ هذا الاحترام عملياً من خلال احترام المواطن وعدم تجاهل حقوقه، وتيسير قضاياه والتعامل معه على أنه كائن كرمه الله على كل الخلائق لعلو مكانته، فلا يجوز أن تهدر كرامته في ساحات القضاء.
وختاماً: إذا اتسعت العمائم على الرؤوس، واتسع الخرق على الراقع، فليس عيباً أن نعلن صعوبة الأمر عليناً وأنَّنا بحاجة إلى خبرات أعلى وتأهيل مستمر، على الأقل لمعرفة أبجديات الإدارة العامة، فضلاً عن أبجديات الإدارة القضائية، "وإن كنا قضاة أجلاء ودكاترة نجباء"، ولو وصل الأمر إلى الاستعانة بخبراء أجانب قطعوا شوطاً من الخبرة والتجربة العملية واثبتوا جدارة.. ليس عيباً؛ بل العيب أن تأخذنا العزة بالإثم ونراعي مقاماتنا ونتغافل عن واجباتنا، ونحنث عن عمد بالإيمان على المصحف الشريف والدستور أمام فخامة الأخ الرئيس، ولا نراعي الله في هذا المجتمع المتعطش للعدالة في محاكمنا الموقرة.