تمنّيت لو أن ذلك اليمني الذي تبعثر دماغه على مقربة من أحد مواقع الجيش في عمران شمال صنعاء احتفظ برأسه ولم يكن ضحية لتجار السياسة الذين يورّطون متبوعيهم في محارق عسكرية يحلم أولئك الذين عبثوا باليمن أن يقبضوا ثمنها. كان بإمكانه ذلك لو أن مؤسسات الدولة حاضرة في حياته تؤدي دورها في انتاج مواطن صالح يبني ولا يهدم، غير أن العصابة التي ذهبت به نحو تلك النهاية المأساوية هي ذاتها من أفسد قيام مؤسسات فعلية تصنع مواطناً صالحاً وهي ذاتها من صنعت الكيان الهلامي المسمّى "حوثي"، وجندت ضحايا احتفاظها بمزايا سلطة مطلقة لم تفلح ثورة 26 سبتمبر المجيدة من انتزاعها وبناء دولة المؤسسات.
شخصياً شعرت بالارتياح لوقف اطلاق النار في عمران، فليس ثمة مجال أمام النظام الانتقالي الذي تحمّل مسؤولية إدارة فترة التحول القائمة في اليمن سوى مواجهة كافة أشكال التعنّت بطريقة مختلفة لا مكان فيها لاتصالات صالح من مقيله المتخم بالقابضين على امتيازات السلطة المطلقة.. أوقفوا الحرب.
نعم ثمة ضحايا من الجيش غير أنهم في مهمّة مقدّسة تقتضيها ضرورة إعادة بنا اليمن كدولة مؤسسات ترعى كل أبنائها وتنتج منهم مواطنين صالحين لا يشبهون كلفوت ولا ذلك الشاب الذي أحزننا تبعثر دماغه فوق بدلة الحرس الجمهوري التي كان يتوشحها.
يدرك تجار السياسة ألاّ مجال لنزقهم المشهود في عمران، لكن إغراءات السلطة المُطلقة تعميهم فيقررون فقط ابلاغ "يوتيوب" عن وحشية مشهد أحد ضحايا مغامراتهم ليقوم بحذفة.
هو عمل ذكي يوحي بالرغبة في مزيدٍ من محارق العنف ويعكس وحشية أصيلة لدى هؤلاء الذين يودون الحفاظ على معنويات متبوعيهم رغبة في قبض ثمن أدمغتهم المبعثرة بشكل مأساوي.
يتساءل المواطن العادي عن عدم تورّع هؤلاء واستكفائهم بما آل إليهم بشكل غير مشروع، لكنه لا يدرك مدى الزهو الذي خلفته السلطة المطلقة التي توارثوها لعقود خلت في نفسيات تجار السياسة الذين يجتهدون اليوم رغبة في تبديد حلم اليمنيين بالتغيير؛ رغبةً في الاحتفاظ بمصالحهم ولو بشكل فج اسمه "الحق الإلهي".
خلال فترة حكم صالح كان التيار الإمامي بمثابة قلب النظام الحاكم، وأنتج معظم أشكال الفساد التي عززت فرص احتفاظه بامتيازاته السلطوية التي لم تفلح ثورة سبتمبر سوى في تغيير مُسمى نظامها القائم ومنحنا مزيداً من فرص المعرفة التي حرمت الإمامة معظم اليمنيين من نورها ولا زالت.
عندما شعر هذا التيار بقرب نهاية نظام صالح اصطدم بمشاريع وطنية بديلة تؤمن بالفعل السياسي، وهذا الأمر كابوس بالنسبة للتيار الإمامي الذي لم تفلح واجهاته السياسية في حصد أكثر من نسبة 1 إلى 301 منذ أول انتخابات برلمانية شهدتها البلاد.
بطريقة ماكرة ذهب هذا التيار في اتجاه استثمار ما انتجه فساده السياسي من غضب عارم في لاوعي المجتمع اليمني فأخذ يتموضع في مربع الخصم بالنسبة لنظام صالح رغبةً في تحويل غضب الشارع اليمني إلى ماكينة تقضم قشرة النظام وتمنح مقاليد السلطة لقلب ذات النظام الذي أنتج الفساد وبدد ثروات اليمن وأحلام اليمنيين.
كانت الثورة التي أطاحت بنظام صالح بمثابة فاجعة لدى التيار الإمامي الذي اضطر للانخراط فيها محاولاً التهام ثمرتها كما صنع مع ثورة أكتوبر، لكنه أدرك استحالة ذلك، فبدأ مشوار كيل الاتهامات من خلال مطابخه الإعلامية لكافة رموز وتيارات الثورة التي مثلت عائقاً فعلياً تجاه محاولاته الانقضاض على الثورة، وحين قرر الانخراط في العمل السياسي ولجه بطريقة مشوّهة نتيجة تمسكه بالعمل المسلح.
كان لما جرى في مصر أثره الكبير على توجّه هذا التيار، الأمر الذي عزز قناعته المتأصلة بضرورة التمسك بالسلطة كحق إلهي نجح في الاحتفاظ به لعقود خلت بشكل منحه التمسك بأهم مفاصل الدولة في الجوانب الأمنية والمالية والدبلوماسية، حتى إن المتحدث باسم جماعة الحوثيين كواجهة لهذا التيار حينما وصل قطر للمشاركة في برنامج "الاتجاه المعاكس" وجد مندوب السفارة اليمنية يهمس له بكل مرح "أنا مكلف باستقبالك".
ربما لم يكن ناطق الحوثيين - المقال طبعاً - على اطلاع بهذا التنسيق المسبق غير أنه يدرك أن اتصالاً من أحد مقايل صنعاء المتخمة بالقابضين فعلياً على مفاصل السلطة المطلقة يقف وراء هذا الترتيب الذي لم يفلح أحد ناشطي الثورة بشيء منه غير أنه كان موفقاً في نقل ما جرى، باعتباره شهادة جزئية تعكس بوضوح مدى توغل هذا التيار في مفاصل الدولة، وإن غادر بعض المراكز السيادية.
ما قام به هذا التيار في الخاصرة الشمالية للعاصمة صنعاء يعكس أمرين:
أولهما القناعة المسبقة لضرورة التمسك بمزايا السلطة المطلقة، وهي قناعة يمكن لعقلاء هذا التيار، الذين تساقط عدد منهم بشكل غامض، إيقاف تداعياتها الكارثية عبر الدفع باتجاه تكوين حزب سياسي، وهذا الأمر يتطلب مزيداً من الهزائم لمغامرات الصقور على ذات الطريقة المؤسفة التي حدثت في عمران وكان لا بُد منها.
كما يتطلب تصلب الرئيس هادي في موقفه المحايد الذي جلب عليه نقمة التيار الإمامي المتعود فقط على التعايش مع حاكم يتقبل التحول إلى دمية لدى هذا التيار الغاضب حتى من تسامح الرئيس هادي كلما كان ثمة فرصة مواتية للتسامح؛ كون ذلك يعكس دهاء الراغب في تعزيز موقف عقلاء التيار الإمامي ويقتضي بالضرورة موقفاً حازماً في مواجهة مغامرات الصقور التي باتت على مقربة من رأس الرئيس.
الأمر الثاني الذي تعكسه مغامرات هذا التيار في عمران، يمثل دليلاً فعلياً على مدى توغل هذا التيار في مفاصل الدولة خلال فترة حكم صالح، وأن هذا التيار هو من كان يرسم سيناريوهات قمع الثورة وفق مخطط ارتكز على ضرب الرؤوس الكبيرة في لا وعي الشعب لينحني البقية، وعندما فشل هذا المخطط في الحصبة واضطر صالح لتوقيع المبادرة الخليجية ومغادرة السلطة تفاجئ هذا التيار بالتحرّك الجاد الذي انجزه الحوار في اتجاه بناء اليمن الجديد، كما تفاجأوا برئيس مختلف جذرياً عن سابقه الذي همس يوماً "عندما يصل عبد الملك الحوثي الحصبة أبلغوني لأفرّ برأسي".
عندما قرر التيار الإمامي مواجهة الإرادة الشعبية نقلوا ذات المخطط الذي رسموه في الحصبة ليجري تنفيذه في عمران فهللت صحافتهم للانتصار على حجارة منزل الشيخ الأحمر دون أبهة؛ لكون هذا الانتصار لن ينسحب على كافة أبناء عمران ومن خلفهم اليمنيون الراغبون فقط في تحول الجميع باتجاه العمل السياسي، وهو ما لن يتم إلا بمزيد من هزائم مغامرات التيار الإمامي الذين يبدون غير عابئين بأعداد ضحايا مغامراتهم التي نعتقد بأن أرقامها لم تفلح بعد في الوصول إلى وسائل الإعلام، ولعل ذلك مؤشر على رغبة صقور الإماميين في مزيد من المغامرات التي لا يهمهم في مواجهة ضحاياها سوى إبلاغ "يوتيوب" بعدم عرض الأدمغة المبعثرة في تباب عمران مع دفن الضحايا تحت جنح الظلام.
الأخوة صقور التيار الإمامي، ليس ثمة فرصة لقبول اليمنيين بعهود "القطرنة" سواء عبر طلاء أنفسهم باللون الأسود أو طلائهم بذات اللون من خلال دُخان الإطارات التي أشعلها ضحاياكم العاطلون.
وفروا أرواح الضحايا وحولوا مليشياتكم إلى أصوات انتخابية، فذلك أجدى للبلاد والعباد، وإن تضررت مصالحكم.
الأخوة صقور التيار الإمامي، فكروا جيداً في تداعيات العنف.. لو تكرمتم.