تتقافز الدموع من عيني أم عبدالله عند أول حديث عن نجلها الأكبر، الذي قتله الإرهاب إلى جوار 40 من زملائه في لحظة بحث عن أمل تحولت إلى كومة من الآلام والغصص. صبيحة يوم الأربعاء السابع من يناير/كانون الثاني المنصرم، استيقظت العاصمة صنعاء على دوي انفجار عنيف، صبغ إشراقة اليوم الجديد بالسواد والحزن، وأحال نهار اليمن إلى ليل حالك جراء فقدانه 42 شاباً وإصابة 80 آخرين، هم نُخبة منتسبي الجهاز الأمني في البلاد.
كان المئات من الشبان يصطفون أمام بوابة كلية الشرطة منذ منتصف الليل وبعضهم منذ يومين خلت، يضمون إلى صدورهم شهائدهم الورقية ومؤهلاتهم الجامعية، مقاومين زمهرير البرد الذي يكون على أشده في هذا الشهر.
لكن انفجار سيارة مفخخة بالقرب منهم قضى على كل تلك الأحلام، وأحال أجسامهم المتجمدة إلى جثث متفحمة وأشلاء متناثرة، يصعب على المرء الصمود عند النظر إليها أو التحديق فيها.
كانوا يسعون باجتهاد إلى الحصول على فرصة أفضل للعيش، لكن قاتلهم سلب منهم حتى فرصة العيش ذاته، ولم يعودوا منكسي الرؤوس فقط، بل أُعيدوا بلا رؤوس أساساً.
لطالما كانت أم عبدالله تتخوف على نجلها وتحذره من أن يسلك دروب المخاطر، حفاظاً على حياته ذات الأهمية الكبرى بالنسبة لهذه العائلة باعتباره «كبير البيت».
مع هذا الحذر فقد فارق عبدالله الحياة وفارق البيت تاركاً خلفه ابنة في ربيعها الثالث وجنيناً كان بانتظار خروجه إلى الدنيا.
وأم عبدالله هذه، هي والدة لأحد ضحايا المجزرة، وطلبت عدم ذكر اسمها الكامل.
مع مرور أربعين يوماً على الجريمة، يطغى الصمت الذي يلفه الكثير من الغموض والجهل بخفايا الموقف، فيما تحاول أسر الضحايا والمصابين أن تكفكف دموعها التي لا يبدو أنها ستجف مع مرور الوقت وانقضاء السنين.
وفي هذه الذكرى أيضاً ماتزال أسئلة محيرة بلا إجابة من قبيل: لماذا هذه الحادثة الوحيدة التي لم تُعلِن أي جهة أو جماعة مسلحة تبنيها، مثل حوادث أخرى مشابهة؟ وما مصلحة الأجهزة الأمنية من تمييع القضية وتناسيها؟ أو ما هي المنفعة أساساً للجهة التي نفذت العملية إن كان هناك من فائدة جُلبت لها بعد ارتكابها الجريمة؟
عقب الحادثة بساعات خرج مسؤولون حكوميون بتصريحات نارية تندد بالحادثة وتتوعد بمعاقبة منفذيها، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فكل تلك الإدانات لا تعدو عن كونها مسكّنات لغضب الشارع إزاء الانفلات الأمني ونزيف الدم الذي يتعاظم مع توغل سلطة الميليشيات.
أكثر التصريحات إثارة للجدل، تلك التي أدلى بها مدير أمن العاصمة العميد عبدالرزاق المؤيد، والتي لم تخلُ من تناقضات وتبريرات للحادثة.
لم يفِ المؤيد، وهو بالمناسبة قيادي في جماعة الحوثيين، بوعده حين التزم بالكشف عن هوية المنفذين للعملية خلال ساعات، وخرج بعد يوم واحد ليبشر بأنه ألقي القبض على المتهمين، واحداً منهم بالقرب من مكان الانفجار، وأربعة آخرين في مصلحة الجوازات بالعاصمة، أثناء محاولاتهم قطع وثائق للسفر والهروب.
في اليوم الثالث أدلى المؤيد بتصريح، يقف على النقيض تماماً من سابقه، حيث تحدث عن أن المتهمين تم إلقاء القبض عليهم وهم يُعدون لعمليات إرهابية أخرى.
وما عدا هذه التصريحات المتخبطة، فقد أصدر قادة في السلطات اليمنية قرارات هامشية لا تُلقي لمعرفة الجهة المنفذة أهمية بالغة، حيث أقال وزير الداخلية اللواء جلال الرويشان مدير كلية الشرطة وعين بديلاً له على رئاستها، الذي هو في الأساس منصب أكاديمي وإداري لا علاقة له بتحقيق الأمن أو التفريط فيه.
الكلية ذاتها أوقفت عملية التسجيل وأعلنت تعليقها إلى وقت آخر بعد أن كانت استقبلت العشرات من مسلحي الحوثيين عبر لجان خاصة وطرق أخرى ملتوية.
كما أن الحديث عن تواطؤ جماعة الحوثيين يفتح المجال للتكهنات التي لا تبرئ الجماعة ولا تكشف –أيضاً- عن هوية المتهم الرئيس في الحادثة..
إدارة أمن العاصمة لم تكلف نفسها تأكيد أو نفي معلومات تُفيد أن شخصاً يدعى محمد العماد وينتمي لجماعة الحوثيين هو من نفذ العملية.
جثة العماد عُثر عليها بين جثث الضحايا في المستشفى العسكري، وحسب مصادر مقربة من أسرة العماد بأن جثته لا تزال هناك بعد مرور أكثر من شهر على الحادثة.
حادثة مجزرة كلية الشرطة لم تكن الأولى من نوعها في البلد، خصوصاً بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء التي أوجدت لتنظيم القاعدة الإرهابي بيئة خصبة لعملياتهم؛ لكن الغموض والتمييع للقضية هو ما يميزها عن سابقاتها ويضع أمامها عشرات من نقاط الاستفهام.
الرئيس عبدربه منصور هادي، نكث بوعده هو الآخر، حين التزم بإصدار قرار جمهوري ينص على ترقية الضحايا من الطلبة المتقدمين ضباطا برتبة "ملازم ثاني"، وتعيين الجرحى بدرجة "مساعد أول"، وجميعهم يتم تصنيفهم على قوائم وزارة الداخلية
بيْد أن هادي لم يعد في منصبه بعد استقالته في ال22 من يناير، فيما لا يزال ينتظر المصابين وأقارب الضحايا القرار الذي يُعيد الاعتبار لهم ولأبناءهم.
تركت الحادثة جراحاً لن تندمل، وجروحاً لعشرات المصابين لم تبرءْ بعد، فقدت اليمن شباناً يحمل أضعفهم شهادة البكالريوس وقضى كل منهم ما يربو عن 15 عاماً بهدف التحصيل العلمي. وحرمت اليمن –أيضاً- من خدمات أكثر من 80 شاباً أصيبوا في الحادثة إصابات مختلفة غالبيتها تسببت في إعاقات دائمة.
علاوة على هذه الخسارة الفادحة، والقهر الذي ينتاب كل بيت يمني، فما يُضاعف منه هو معرفة أن القاتل يمشي بيننا حراً طليقاً دون أدنى حساب أو عقاب لارتكابه جريمة وصفت بأنها من أبشع ما عُرف في تاريخ اليمن.