تتراءى لي البيوت في القرى المختلفة، أستطيع تمييز أي بيت حزين وإن كان بعيدًا؛ تومض بضوء خافت يشبه بريق الدمعة في عين جبل لا يريد لكبريائه أن يتداعى. إنه أسبوع جنائزي حزين، يجعلك تفكر بشراء دراجة نارية للتنقل بين العزاءات، كأبسط جميل يمكن أن يرده الإنسان لأهالي أفراد المقاومة الذين استشهدوا. الليلة مقمرة.. يختبئ القمر خلف سحب إبريل الرمادية أحيانًا، وتهب الريح الباردة لتشتت أنات الثكالى وآهات المحزونين. احزن براحتك، الريح تحجب أناتك الحرى عن آذان الآخرين. أهلًا بكم في الريف الشمالي من تعز. وفي كل الجهات أيضًا.
أرى أربع بيوت مازالت أوجاعها طرية. هذا الأسبوع لم تكتمل مراسيم العزاء لشهيدين، حتى استشهد اثنان يوم الخميس. أعمار الراحلين تستدعي الاهتمام، ما بين الثامنة عشر والثانية والعشرين، الزغب الأصفر بدأ يتوهج حول أرنبة كل أنف.
يساورك ألم في العمق وأنت تقلب تفاصيل هؤلاء، وغيرهم كثير، تأملت حتى كأن الأكسجين نفد من هذي البلاد فتواصلت التناهيد. من بين شهداء البلاد الكثر، أحصيت أكثر من 25 شهيدًا بين الثامنة عشر والخامسة والعشرين، في المنطقة الصغيرة التي تراها عيني بشكل دائري. كيف بالمناطق الأخرى من تعز. كل يوم تقريبًا يسقط شاب على الأقل.
يبدو ملفتًا هذا النضج غير المسبوق لدى الشباب وتضحياتهم الوطنية، يشبه إلى حد كبير المقاومة التشيلية لانقلاب بينوتشه؛ لقد كانت المقاومة من الجيل الحالم وغالبيتهم من الشباب الذين قادوها سرًا وعلانية.
الثورات يشعلها الشباب، وكذلك المقاومة. ثمة تفاصيل لا يصل إليها أحد، تحكي الإصرار الأسطوري لشباب تعز وتشبثهم بالمقاومة، المشهد الذي سأسرده، ليس إلا تفاصيل قليلة جدًا من تفاصيل شاب استشهد يوم الخميس، من البيوت الأربع التي تتراءى كيف ببيوت بقية المناطق المحتجبة.
ماجد سعيد، صهر جارنا. عمره تسعة عشر سنة تقريبًا، اكتسب لبشرته سمرة من أشعة الشمس اللاهبة التي يتنقل تحتها في جبهات المعارك. طويل وناحل الجسم، شفَّه وِجْد البلاد. عندما اقتحمت المليشيا المدينة انخرط في صفوف المقاومة، وبعد فترة من اندلاع المعارك اتصلت والدته: "لو مت لست راضية عنك".
كل شيء، في سبيل البلاد، نكسره عدا رضا الوالدين. لقد عاد إلى القرية لإقناع والدته. بإمكانه أن يعيش عيشة هنية، وضعت أمه كل ما تملك من ذهب بين يديه. "كل هذا لك ولا تعد إلى المدينة". رفض كل المغريات البراقة لإثنائه.. ألح عليها وأقنعها بضرورة المعركة.. رضيت عنه ويوم الخميس استشهد. لرؤية جسده المسجى، يتطلب الأمر مغامرة غير مأمونة بالتسلل إلى المدينة عبر طرق جبلية وعرة.
لقد رفضت أمه الذهاب بسبب مقنع: كي لا تتخيله ميتًا بقية حياتها، لتعش على ذكرياته منتظرة المجيء الحي، أن تراه مسجى سيقطع عنها خيال الحياة كما قالت.
هذا بيت. في بيت آخر وبذات اليوم، الخميس. استشهد محمد عبدالواسع سعيد، لم يجتاز العشرين من العمر، وهو أخ لشهيد سابق اسمه أحمد، يقاربه في السن، وعمهما أيضًا استشهد من قبل.
في البيت الثالث وقبل يومين، استشهد ماجد جسار، استطيع، الآن وأنا أكتب، رؤية مخيم العزاء المستحدث من الخشب المربوع والطرابيل الغبراء، لم يجتاز الثامنة عشر. كنا قد لعبنا مباراة بين قريتين متباعدتين قليلًا ولم أكن أعرفه غير شكلًا أنيقًا، وعرفت اسمه يوم استشهد. كان ماجد في فريق وأخي محمد الذي استشهد قبلاً في أغسطس في فريق، مليشيا التمرد المتحالفة مع المخلوع، فطرت الكرة. صرنا فريقًا واحدًا: البلاد.
في البيت الرابع وقبل أيام استشهد الصديق يوسف أديب، عمره تقريبًا إحدى وعشرين سنة. هؤلاء لا يعرفهم أحد، وإن أحد من أبناء المنطقة قام بعمل سلبي ومدان، لاكتها ألسن "التقدميين الجدد"، وأشعلوا عالمهم ضجيجًا ورموا مناطق ننتمي إليها بلطخة الوقاحة. لمكايدات حزبية محضة، امتد الاستهتار إلى أكثر المواقف تضحية، فبعد الدم الذي انسكب الخميس، هناك من قال بأن "الانتصارات وهمية لمعركة وهمية". * مقال خاص بالمصدر أونلاين