لا زلت احمل تلك الطيبة الساذجة التي لم تصقلها الحرب بأصابعها، ساذجة لدرجة أني أقف في شرفتي بداية كل صباح مؤكدة بأن هذا النهار هو آخر أيام الحرب، لن أنهي فنجان القهوة الساخن حتى أجد خباًر يسعدني، لا أحتاج إلا للقليل من الإيمان واليقين، متجاهلة تجاعيد زمن الحرب التي توغل في حفر نفسها على وجه الأرض. لم أكد أنهي فنجاني، حتى أجد وباءً جديداً أضيف لقائمة الأمراض والأوبئة التي صبها تحالف عفاش والحوثي، مازال للفواجع قائمة طويلة بانتظارنا.
تلفتُّ حولي فزعة، كيف نفر من هذه اللعنات، أي أرض تحتوينا أكثر رأفة من الوحوش التي جثمت علينا، وعلى لساني سؤال مر "ما الذنب الذي اقترفناه لنستحق هذا العذاب؟!".
لا أعرف ما الذي قادني فجأة لشعب فرعون!، ما الذي ربط بين كوليرا الحوثي، وجدري عفاش بذلك الشعب البائد.. لا تعرف ذاكرتي سوى فرعون وخطاياه، فرعون وجنوده، فرعون وكهانه وسحرته، فرعون وجنونه.. أما شعبه فلم يظهر على كادر الصور أمامي طوال القصة، ما الذي أجرم به ذلك الشعب ليصب عليه بعضاً من عذابات فرعون!!.. قمل ..ضفادع..دم .. جراد..لا أتذكر الآية!!؟..
لم أسمع بأن الغرور والتكبر كان من شيم شعب فرعون!، لم تزلزل بهم الارض نتيجة لفاحشة أبيحت في أزقة مدنهم، لم يذبحوا ناقة، ولم يلحوا في التدقيق بمواصفات بقرة، إن لم يكن الإكثار من تناول النشويات يعد خطيئة في ذلك العصر، فهم شعب لا غبار عليهم!! مجرد شعب هادئ مستكين مطيع لحاكمه، يستمع لقراراته عبر الإذاعة والتلفزيون، بصمت دون أي رد فعل، وكأن جنون قراراته خبراً مملاً يروى عن ثورة بعيدة يقودها سكان نيروبي، أو كوالالمبور!!..
سيصيح أحدكم مستنكراً، وهل كان من موجات إذاعية في عهد فرعون؟؟.. هل هذا ما أثار حنقك!، شاشة التلفاز أيضاً لم تكن قد اكتشفت بعد، كما أني أتحدث عن مجزرة لم يحدث مثيل لها في التاريخ، قرار إعدام رضع بني إسرائيل صدر خصيصاً لجار ملاصق، أو لآخر لا يبعد عنهم سوى شارع أو شارعين على أبعد تقدير!!
إعدام لجيل كامل بسبب حلم أو كابوس زار حاكمهم في منامه، ولم يعط لنفسه تفسيراً أبسط لذلك الحلم، أرق مثلاً!!، أو رياح بارده لفحت جسده المكشوف وهو نائم!!. كانت هذه اذن خطيئتهم.. سلبية مخيفة لشعب يعبر جوار أوامر قتل الأطفال ولا يحرك ساكناً، ربما مذبحة للدجاج ستشغلهم أكثر من مجرد مجزرة أطفال!! ألا يذكرنا هذا بشعب نعرفه جيداً..
شعب أغلب مواطنيه تحت خط الفقر منذ سنوات، حتى قبل أن تقرع الحرب أبوابنا، وهو صامت لامبالي، يجلد من اللحظة التي يفتح فيها عينيه حتى يعاود نومه، من زوجة متطلبة، مدير متعسف، سائق أجرة متهور ومبالغ في أجرته، من تجبر صاحب المنزل الذي يطالبه بإيجار شقة ممتلئة بالحشرات ويعامله بعنجهية من يؤوي في ممتلكاته صاحب عاهة محتاج، وبعد أن ينتهي من معاناة يومه يطفئ نيران كرامته بغصن قات رديء النوع، وهو يشعر بالنصر متفاخراً بعد انتهائه من حل الكلمات المتقاطعة في جريدة بالية.
وجاءت الحرب، فأصبح يسير في الشوارع شبه حي، ميت انشغل عنه الموت لأمر أهم، فلا خوف من تغيير عنوانه سيبقى يسير في دوائر تائه حول نفسه حتى يتفرغ له الموت. حرب، دماء نازفة، فقر وجوع وكوليرا وأخيراً انعم عليه فراعينه الجدد بجدري انتهى منه العالم من عشرات السنين.. ولا زلت اسمع عبارة( سلام الله على عفاش)!!
لأول مرة القي بتفائلي الساذج من الشرفة، لن أبحث عن سلة للمهملات، أتمنى فعلاً أن يتآكل هذا التفاؤل بأي من اللعنات المكتظة في الشارع، سأتوقف عن الأمل متعمدة.. حتى أتوقف عن سماع لعنة عبارة (سلام الله على عفاش)، أو ألقى نصيبي أنا الأخرى من أحد هذه الأوبئة، لا أختلف عنهم، ولست بأفضل منهم حالاً.