قبل أشهر، لوح قيادات الصف الأول في حزب المؤتمر الشعبي العام، في اجتماع مغلق وصاخب للجنة العامة ترأسه علي عبدالله صالح، بأن يحذوا حذو القيادي المؤتمري النائب عبدالوهاب معوضة -الذي قاد جبهة مواجهة عنيفة مع الحوثيين في مديرية عتمة بذمار- إذا استمر مسلسل إهانات واستفزازات الحوثيين لهم، وإذا لم تقم قيادة الحزب - ممثلة بصالح ذاته- باتخاذ موقف يحفظ كرامة كبار موظفي حزبه. لكن صالح لم يكن يمتلك فائض مواساة لهم، بأكثر من مطالبتهم بالصبر، والبقاء في منازلهم إذا اقتضى الأمر لتجنب الاحتكاك.. أحدهم صارحه متذمراً "طفح الكيل والاستفزازات قد وصلت باب الباب يا فندم.. ما باقي إلا يدخلوا لنا لااااا داخل".
تغير موازين القوى.. استعادة صدارة المشهد.. سياسياً وعسكرياً
خلاصة إفرازات الأشهر الماضية من التوتر وغياب الثقة بين الطرفين، وتحركات صالح وصبر أتباعه، تجلت بوضوح في سجالات الأيام الأخيرة التي سبقت الموعد المضروب لفعالية المؤتمر.
الخميس الماضي، 24 أغسطس 2017، بدى أن هناك تغيراً واضحاً.. كان صالح يتحدث بثقة في ميدان السبعين أمام حشود ضخمة من أعضاء ومناصري حزبه، تألبوا للاحتفاء بالذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيس المؤتمر، وخلفه وإلى جانبه كان يقف بثقة أكبر معظم تلك القيادات التي كانت تتذمر من سياسة مواجهة إهانات الحوثيين بالصبر.
لا يتعلق الأمر، هذه المرة، بضخامة الحشود التي يستغلها صالح لاستعراض شعبيته وثقله وحفظ معنويات أتباعه، والتأثير على مركزه التفاوضي محلياً وخارجياً.. أكثر من ذلك؛ قدم صالح نفسه هذه المرة باعتباره الطرف الأكثر تأثيراً وصلابة وتماسكاً في صنعاء، والذي لا زال يمتلك ما يمكن تقديمه حرباً أو سلماً، بعدما كسب أول معركة "كسر عظم" مع المتمردين الحوثيين منذ تحالف معهم بشكل علني عام 2014، بعدما كاد يفقد ثقة دائرته المقربة ورجالاته المخلصين. حرص صالح على مدى أشهر، أو ربما منذ انجاز الانقلاب في يناير 2015، على عدم إظهار التوتر إلى السطح طالما أنه، وحزبه، سيبدو الطرف الأضعف فيها، مكتفياً بنصيحة أتباعه المتذمرين من سطوة وإهانات الحوثيين بالصبر، فيما كان يعلن صراحة في مقابلاته وتصريحاته أن السلطة بين الحوثيين وبيدهم قرار الحرب والسلم، وأنهم من يديرون السلطة والبلاد.
لكنه في المقابل كان يتحرك بهدوء على مسارات متعددة لترتيب أوراقه، واستعادة صدارة المشهد في معسكر الانقلاب سياسياً وشعبياً وربما عسكرياً، بعدما أوشك الحوثيون على الانفراد به خصوصاً في ملف إدارة المؤسسات الحكومية القائمة في صنعاء، والأهم منه أيضاً ملف المفاوضات والتواصل مع الخارج.
تجاوز نصائح الصبر.. وسخرية من "ملازم" الحوثي
تغيرت نبرة صالح مصعداً خطابه تجاه الحوثيين، متجاوزاً سقف نصائح الصبر مستغلاً اعتراضهم – المبني على سوء النوايا وغياب الثقة- على دعوته لأنصاره بالاحتشاد في 24 أغسطس، ليواجه اتهاماتهم له ولحزبه، بالخيانة والغدر والفساد، وعقد الصفقات، ولأول مرة بانتقادات قاسية طالتهم في صميم "مرجعياتهم المقدسة" ورد فيها بقوة على مزاعم زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي.
كان الأخير زعم أن حصة جماعته في الحكومة لا تتعدى 1%، لكن صالح أشار أن هناك لجاناً ثورية واشرافية فوق المجلس السياسي، ومجلس تنفيذي فوق الحكومة، ومشرفين فوق الوزراء والمحافظين، يتصرفون بالايرادات، ويمنعون الرواتب ويعطلون المؤسسات الرقابية والتشريعية، وطالبهم بإبعاد المشرفين أو تعيينهم في المواقع التي يشرفون على إدارتها كمحافظين أو وزراء وتعيين محمد علي الحوثي على الجهات الرقابية عوضا عن البقاء فوق المسؤولين والمحافظين.. وقال "سكهونا شغله (يعني شغل المشرفين)".
وتعليقاً على ذلك قال صالح إن الأنظمة والقوانين واللوائح المنظمة لعمل الحكومة والمجلس السياسي هي من صنع الشعب ومؤسساته، لافتاً إلى أن الدستور والأنظمة واللوائح ليست "ملزمة" خاصة به ولا بالمؤتمر، وأكد أنه لا توجد لديه "ولا ملزمة"، في إشارة ساخرة من الحوثيين الذين يعتمدون في أبجدياتهم وثقافتهم على "ملازم ورقية" تتضمن محاضرات لمؤسس الحركة حسين الحوثي الذي قتل على يد قوات صالح في سبتمبر 2004، خلال قيادته الجولة الأولى من الحرب بين اتباعه المسلحين مع القوات النظامية.
لطالما طغت على خطابات عبدالملك الحوثي، نبرة التحدي والتلويح بالسبابة والتهديد بخيارات استراتيجية، وبالتصنيع العسكري والطائرات بدون طيار، وبالصواريخ الباليستية، لكنه ظهر هذه المرة مفلساً من أية أدوات تصعيدية عدى التلويح بالتضحية برأسه كآخر الخيارات الاستراتيجية على ما يبدو "مستعدون للتضحية حتى آخر رأس.. وهذا رأس عبدالملك بدرالدين الحوثي حاضر أن يقدمه في سبيل الله وفداء لهذا البلد".. كذلك دعا لزيارة "مقابر الشهداء" والذهاب للجبهات والنظر من هم ومن أين؟. لكن صالح قابله بسخرية أيضاً مشيراً أن الجبهات ترفد سياسياً واقتصاديا وثقافياً واجتماعياً وعسكريا وأمنياً كمنظومة متكاملة "رفد الجبهات بالنزول إلى الميدان، مش بالكلام ولا بالملازم".
ميليشيات.. وطابور الخامس صالح أعاد تقييم وصف الطابور الخامس - الذي أطلقه سلفاً عبدالملك الحوثي لوصف المؤتمريين الذين يعارضون ممارسات جماعته- ليحمل الوصف على أتباع الحوثي أنفسهم الذين يعملون على شق الصف بين حزبه وجماعتهم، والذين دعوا للاحتشاد في مداخل العاصمة مقابل دعوة الاحتشاد في السبعين، وكذا الاستفزازات المتكررة بتمزيق الملصقات ومحاولات جر المؤتمريين إلى العنف والمواجهة. ومضيا في خطاب التصعيد وصف صالح اللجان الشعبية للحوثيين التي انتشرت في صنعاء بالميليشيات.. نبرة صالح المتصاعدة ضد الحوثيين، وصف اللجان الشعبية بالميليشيات، تلويحه بالقوة في وجه أي طرف يسعى لإخلال الأمن في العاصمة، انتقاداته للتحشيد في مداخل العاصمة، وسخريته لأكثر من مرة من الملازم، يشير لمستوى عال من الثقة التي وصلها وحزبه، وما كان ليخرج بهذا الخطاب الساخر ويكرره لأكثر من مرة، وفي أكثر من سياق، دون إدراكه لوجود قدر كبير من التوازن في ميزان القوى بين الطرفين.. لا بل (ربما) لإدراكه أن ميزان القوة داخلياً غدى يرجح كفته، وهذا ما أكدته نتائج ومخرجات أسبوع من الجدال والتوتر على المستوى الرفيع.
الحوثيون.. تصعيد ينتهي بفرملة غير مألوفة
كان محيراً الإجراء الذي من الممكن أن تتخذه جماعة مسلحة بلا عقل، لا تفقه شيئاً في حرية التعبير، وتعتبر الرأي المخالف خيانة، وتعتدي حتى على النساء اللائي يتظاهرن لأجل أقاربهن المختطفين في سجونها، لكنه لم يتعد مجرد بيان منفعل صدر عن اللجان الشعبية - من المعروف أنها بلا هيكل ولا قيادة واضحة- واقتصر الرد على التذمر من وصف صالح لها بالميليشيا.. كان البيان طافحاً بالوعيد لصالح، الذي وصفه بالمخلوع "من الدين والمروءة والشرف"، واتهمه بتجاوز الخطوط الحمراء، وهدد بعدم السكوت وتوعده بتحمل تبعات ما قاله.. "والبادئ أظلم".. غير أنه لم تمض سوى ساعات على صدوره، حتى كان بيان آخر ينشر على النقيض تماما من سابقه، وصدر عن الحوثي نفسه مساء الأربعاء، وتردد أنه جاء تبعاً لوساطة تهدئة قادها الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، دعا أتباعه للترفع عن المناكفات، والتعاون في حفظ الأمن، ما يعني أن الحوثيين لم يكونوا ينتظرون سوى وسيطاً يعلن عنه كمخرج لهم من مأزق المواجهة غير المحسوبة مع صالح.
ويشير التعقل الطارئ على الجماعة المتمردة، التي لم تلتزم بمواثيق ولا باتفاقات عبر تاريخها، أن الجماعة باتت تعطي أولوية مطلقة لحسابات ومصالح قياداتها المتخمة بالفساد والنهب وأحلام التحكم بمفاصل الدولة والمؤسسات الحكومية، والاستثمارات الطارئة والمربحة في القطاع الخاص دون رأسمال يذكر سوى استغلال المقدرات الحكومية، ولا تستطيع المغامرة في معركة ربما تُفقد رؤوسها كل المصالح والامتيازات التي راكموها بشكل قياسي خلال أشهر فقط من الانقلاب والحرب باقتصادها المربح..
المؤتمر.. نجاح الفعالية.. وتهدئة طبيعية انجز حزب المؤتمر فعاليته بنجاح، مقابل فعاليات باهتة منهكة للحوثيين في مداخل العاصمة.. حافظ صالح على نبرته المرتفعة حتى النهاية، وتجرأ أتباعه على إطلاق كلمات قوية عن القوى الرجعية والظلامية، وتمييع الشراكة، والعبث بالموارد، وسوء الإدارة، ورفض تغيير مناهج التعليم. وإن فترت كلمة صالح المقتضبة والمرتجلة أمام المحتشدين في السبعين عن التصعيد الخطابي في وجه الحوثيين، فلأن الحشد جاء صبيحة وساطة التهدئة التي قادها وكيل إيران في المنطقة والراعي الرسمي للحوثيين حسن نصر الله، وتبعها فوراً بيان تهدئة تامة صدر عن الحوثي نفسه عشية الفعالية، كما أن لهجة صالح التصعيدية كانت تتسم بالمرونة أيضاً لتتيح له العودة لخطاب التهدئة دون ظهور انكسار واضح، مع التلويح باستعدادهم لمواجهة أي محاولات "للميليشيات" للإخلال بأمن العاصمة و"التفحيط" من ثمّ خارجها.
رسائل صالح الأكثر خطورة.. للحوثيين كلمة صالح الختامية في مهرجان السبعين، تضمنت شكراً للجان الحوثيين الشعبية، لكنها لم تخل من إشارات إلى الخونة الذين منعوا الحشود من الوصول إلى العاصمة، وإن حاول توجيه الاتهام للقوات الموالية للشرعية المتواجدة على حدود مناطق سيطرة الطرفين، حيث لم تكن هناك حشود مؤتمرية ليتم منعها أساسا.
التلويح بقوات الاحتياط في وجه الحوثيين لكن الرسالة الأكثر خطورة هي تلك التي وجهها صالح للحوثيين، باستعداده لحشد عشرات الآلاف من المقاتلين القابعين في منازلهم -جراء الهيكلة التي قام بها الرئيس هادي، حسب زعمه، قبل الانقلاب- للجبهات..
لم يكن صالح قطعاً يعني فعلياً ما يقول ولا يعني جبهات القتال مع قوات الشرعية والتحالف العربي، فلطالما توعد صالح برفد الجبهات بمقاتلين وعسكريين محسوبين عليه دون أن يفعل؛ كما يؤكد الحوثيون الذين تذمر زعيمهم بوضوح من ذلك في خطابه الأخير، ودعا لزيارة المقابر والجبهات للاطلاع من هم المقاتلون ومن أين؟..
صالح يتوعد الحوثيين بقوات الاحتياط الذين يُعرّفهم بأنهم العسكريين القابعين في منازلهم، وهم على أهبة الاستعداد.. ليس للجبهات الأخرى، ولكن للجبهة الداخلية التي غدا يترصدها حتى يتيقن من الاستنزاف الكافي للحوثيين ومقاتليهم وقواتهم، ليحيلهم مجدداً إلى ذات الوصف الذي كان يلصقه بهم إبان حروب صعدة الست باعتبارهم جناحاً مسلحاً يتبع حزبي الحق واتحاد القوى الشعبية، أو يحاول تذويبهم والابقاء على هيكل سياسي هزيل لهم ينضوي ضمن التحالف الوطني للمعارضة الذي يضم الأحزاب الكرتونية التي كان صالح يربيها لتشكل ديكور المعارضة لحزبه..
وسيكون متاحاً له -إذا مضى السيناريو كما يخطط له- أن ينفرد بحكم الأمر الواقع بقرار الحرب والسلم كممثل وحيد لمتمردي صنعاء.