يمكن القول اليوم إنّ ثلاث نساء على الأقلّ يمسكن بمقاليد سلطات بالغة التأثير في عالمنا المعاصر: إنغيلا ميركل، مستشارة ألمانيا التي أحدثت تحوّلات بارزة في مجريات السياسات الأوروبيّة والدوليّة، وكريستين لاغارد، المديرة العامّة لصندوق النقد الدوليّ المتحكّم بشريان بارز من شرايين الاقتصاد العالميّ (وكانت سابقاً وزيرة في بلدها فرنسا)، وتيريزا ماي، التي غدت مؤخّراً قائدة حزب العمّال البريطانيّ الحاكم، وبالتالي رئيسة الحكومة البريطانيّة، تتربّع سعيدة في 10 داوننغ ستريت وسط مقارنات ب "السيّدة الحديد" مارغريت ثاتشر. فإذا أضفنا أنّ بعض أهمّ مدن العالم باتت تحكمها نساء، كيوريكو كوياكي، التي انتُخبت رئيسة لبلديّة طوكيو، وفيرجينيا راجّي، التي انتُخبت محافظة لروما، بات في وسعنا القول إنّ أمراً جدّيّاً يحدث على هذا الصعيد الخطير. بيد أنّ التحوّل الأبرز هو ما قد يجدّ في حال انتخاب هيلاري كلينتون، بعد أشهر قليلة، رئيسة للولايات المتّحدة الأمريكيّة، هي التي اعتُبرت تسميتها مرشّحة حزبها، الحزب الديموقراطيّ، بمثابة "صنع للتاريخ". فأن تغدو "رئاسة العالم" في يد امرأة (سبق أن كانت وزيرة خارجيّة بلدها) فهذا ليس بالتفصيل العابر والقليل الأهميّة.
ويبدو أنّ هذه التحوّلات بدأت تنعكس على مؤسّسات ليست معروفة تقليديّاً بالتعاطف مع النساء. فقد قرّر، مثلاً، بابا الفاتيكان، فرنسيس الأوّل، تشكيل لجنة تدرس حقّ المرأة في أن تكون شمّاسة. وهذا إذا ما تمّ، مهّد لحقّها في الكهانة على النحو الذي حسمته إيجاباً معظم الكنائس البروتستانتيّة والإنجيليّة. حتّى المؤسّسات الأشدّ ذكوريّة وعداء للنساء في البلدان الغربيّة، أي التنظيمات الشعبويّة والقوميّة المتطرّفة، باتت لا تمانع في زعامة نساء كالفرنسيّة مارين لوبن، مع أنّ صعود هذه الأخيرة يبقى أشبه بحال النساء الوريثات في "العالم الثالث" (أنديرا غاندي في الهند وبنازير بوتو في باكستان الخ...) ممّا بباقي النساء الغربيّات اللواتي وصلن إلى السلطة من دون أن يصدرن عن أب أو زوج سياسيّين.
قصارى القول إنّ ثمّة طريقاً قد شُقّ وبات من الصعب سدّه، على الأقلّ في البلدان المتقدّمة. وهذا بالطبع لا يعني أنّ مشاكل النساء قد حُلّت، وأنّ المرأة حقّقت مساواتها المستحقّة مع الرجل. إلاّ أنّه يعني، في المقابل، أنّ شروط استئناف هذا الصراع قد تحسّنت كثيراً، وأن سوابق قد أُرسيت، فيما تعزّزت صور ونماذج أصبحت من تحصيل الحاصل ومن قلب أنظمة القيم الصاعدة. ولهذا باتت نسبة تمثيل النساء وحضورهنّ من معايير الحكم على نشاطات ومؤسّسات كثيرة تبدأ بالندوات والمؤتمرات ولا تنتهي بقيادة الأحزاب والشركات أو العضويّة في البرلمانات والحكومات.
وغنيّ عن القول إنّ مساراً كهذا إنّما يعكس انتصارات مؤكّدة للنسويّة تحقّقت بفعل خليط من الجهد والنضال والإنجازات. إلاّ أنّه يعكس أيضاً انتصارات أعرض حقّقها التقدّم في ظلّ العولمة وما أحدثته من ثراء واستنارة، وإن كان توزيع ثرائها لا يزال يشكو من اختلالات كبيرة ومتزايدة.
وبالضبط لأنّ الأمور على هذا النحو، فإنّ الارتداد على هذه الإنجازات لا يقلّ قوّة عن الإنجازات نفسها. والدليل الكونيّ الأبرز في هذا المجال صعود دونالد ترامب والأفكار الظلاميّة التي يمثّلها وتستجيب لها قطاعات عريضة لم تستفد بعد من التقدّم الحاصل، أو تضرّرت من قصوره وتقصيره، فاتّجهت إلى مناوأته.
وتبقى نقطة أخيرة مؤلمة وجارحة لكرامة العربيّ التقدّميّ، وهي أنّ إسرائيل تكاد تكون الدولة الوحيدة خارج الغرب الأمريكيّ – الأوروبيّ التي عرفت رئيستي حكومتين هما غولدا مائير وتسيبي ليفني خلال عمر قصير نسبيّاً للدولة العبريّة. فالمذكورتان ليستا من صنف الزعامات النسائيّة الوارثة لأب أو زوج سياسيّين، على ما نعرفه في بلدان آسيا، بل يصحّ فيهما ما يصحّ في زعامات الغرب الديموقراطيّ. وفي هذه الغضون تتكاثر عندنا الفتاوى القائلة بعدم جواز تولّي المرأة للمسؤوليّات العامّة لأنّها... تحيض!