اعترف بداية أنني استعرت عنوان هذه المقالة من كتابٍ جميل للأستاذ محمد أحمد الرعدي صدر بهذا الاسم قبل عقود ثلاثة تقريبًا، وهو كتاب لخّص على صغر حجمه أضرار القات، وخاصة من الناحية الصحية. قصةٌ طريفةٌ هي ما ذكّرني بهذا الكتاب وعنوانه، رواها لي صديق أثير من الريف التهامي تجمع في ثناياها الكوميديا والمأساة في آن واحد، وتؤكد واقعية العنوان الذي اختاره الأستاذ الرعدي لكتابه سالف الذكر حيث أصبح جل اليمنيين يهربون فعلا من بلوى القات إلى سلواه.. وما بين هذه البلوى وتلك السلوى تضيع أعمار، وتُهدر طاقات، وتعطّل قدراتٌ، وتُصرف أموال وأموال عبثا وبدون طائل. قال صديقي الذي لا يتعاطى القات: كَبر في نفسي وأنا أرى غالبية سكان بلدتي الريفية من الرجال والنساء وحتى الأطفال أسارى لهذه العادة المقرفة، يعطونه الأكثر من كل شيء: من أموالهم ومن أوقاتهم، ومن أراضيهم، ومن مياههم على شحتها، ويخيفك حدّ الهول حين تجدهم في ساعات تعاطي القات التي تبدأ بعد الغداء مباشرة وقد تمتد إلى ساعات متأخرة من الليل مع ما يصاحبها من تعاطي الدخان والمشروبات الغازية، وهم منفوخي الوجنات، زائغي الأبصار، يبدؤون أحلامهم الوردية أو ما يسمونها الساعة السليمانية مع الساعات الأولى لتعاطي هذا الشجرة الخبيثة فإذا ما انقضت هذه الساعة كانت الانتكاسة تمدّ وساوسها فيهم أوهاما وهموما، فتجد هذا يبكي وهذا ينتف شاربه، وثالث يطرق رأسه وكأنه يحمل هموم السماء والأرض، فإذا ما قذفوا بما تبقى في أفواههم من هذه النبتة الشقية؛ بدأت نوبات الحسرة والندم تكرّ في أذهانهم، ثم تبدأ رحلة البحث المضنية عن النوم.. وهكذا يهدرون أوقاتهم: فلا ليلهم سكن، ولا نهارهم معاش. قال صاحبي ولكي أقف على حجم المأساة قمت وزوجتي بعمل إحصائية لمعرفة عدد المتعاطين للقات: أنا في أوساط الرجال، وهي في أوساط النساء، وكانت النتيجة مخيفة، وكارثية، بل إنها تسونامي اجتماعي بكل المقاييس: ألف وسبعين رجل وامرأة يتعاطون القات بشكل يومي، وهناك مجالس جماعية للرجال وأخرى للنساء خلاف حالات التعاطي الأخرى. فإذا ما افترضنا أن ثمن تخزينة الفرد من هؤلاء ألف ريال فقط وهي فرضية متواضعة جداجدا فإن معدّل ما تصرفه بلدتنا الموقرة ثمنا لهذه الشجرة يتجاوز المليون ريال في اليوم الواحد، والثلاثين المليون في الشهر، والثلاث مئة وخمسة وستين مليون في العام.. أضاف صاحبي: ومع هذا البذخ القاتي المفرط فإن مظاهر الفقر والعوز تسرح وتمرح في بلدتنا، فما أكثر الأسر التي تعيش تحت خط الفقر، وما أكثر حالات الزواج المتعثرة، وما أكثر المرضى والجائعين والمدينين والعاطلين عن العمل. ولكي أصل بهذه الإحصائية إلى نتيجة؛ قمت بعمل قائمة بأهم حالات الفقر الضرورية والمستعجلة، فوجدت أن نصف ما يصرف على القات على مدار العام يمكن أن يحل إشكالات عديدة، فدوّنت ذلك بالتفصيل في أوراق وضعتها في جيبي باحثا عن شخص فاعل يشاركني هذا الهم، وفي طريقي إلى السوق التقيت بصديق لي يختطب الجمعة في بعض الأحيان، فصعدت معه سيارته وبدأت أطرح له الموضوع بالتفصيل والرجل مصغٍ إليّ باهتمام كبير، وقبل أن نفترق قال لي: إن ما قمت به جهد جبّار ولا بد من طرح هذا الموضوع في خطبة العيد المقبل حيث يتواجد أكبر جمع من الناس لكنني قبل ذلك أحتاج للجلوس معك حتى تتضح الرؤية أكثر. قلت له: ألا يكفي ما دونته في هذه الأوراق؟ قال: ما دونته رائع لكن هذا الموضوع لأهميته يحتاج إلى إنضاج الفكرة أكثر بحشد شواهد من الواقع تعزز هذه الفكرة، قلت له بإمكان كل واحد منا أن يدون الكثير من هذه الشواهد ثم تختار أنت منها ما تريد. قال: لا.. لا بد من جلوسنا معا فالموضوع لكي يعد على الوجه المطلوب يحتاج إلى جلسة قاااااات عاااااامرة.