النقاش العاصف الذي شهدته الجلسة الختامية لمؤتمر الإصلاح الرابع "الدورة الثانية" حول دائرة المرأة مثَّل تاريخاً فارقاً في مسيرة الإصلاح التنظيمية والعملية، وأكد فيه الإصلاح أن الحاجة الدائمة إلى التغيير على مستوى الداخل هي نتاج فعاليته وحركيته في الفضاء العام. بقدر النشاط العام والاندفاع نحو الخارج، والاشتباك مع قضايا الواقع وتحدياته الكبرى، والانفتاح في السياسات والخطط وبرامج العمل، بقدر ذلك كله تبدو الحاجات إلى إصلاحات داخلية وتغييرات أساسية،أموراً حيوية ملحة من شأنها الإسهام في إيجاد حالة من الاتساق والتوازن والفعالية في الأداء والحضور. وفي هذا يجد الإصلاح نفسه، وكنتيحة طبيعية لدخوله كفاعل أساسي في المعترك السياسي الواسع، أمام ضرورات تغييرية دائمة على صعيد الحياة الداخلية بمختلف مستوياتها. المهمات الكبيرة على صعيد الخارج تفرض ما يوازيها داخلياً، مجابهة الفوضى الضاربة في المحيط توجب إيجاد حالة من السوية الداخلية على نحو يضمن التماسك والانسجام وعدم التناقض، وهنا يسجل الإصلاح قطعاً واضحاً مع تلك الحالة الصفوية والطهرانية الانعزالية التي تسم العديد من التيارات ذات التوجهات الإسلامية. الإصلاح يحرص على إيجاد سوية داخلية مكرسة في سبيل إحداث سوية عامة تستنفر معظم الطاقة والجهد، هنا يرى الإصلاح فارس ميدان يصارع خارجه على مستوى الدولة والحكم والنظام، إلى آخر هذه العناوين الكبيرة التي يناضل في سبيلها مع شركائه في الساحة. هذا الاندفاع باتجاه الخارج المتسم بروح المبادرة والقدرة على اتخاذ القرار هو بذات الوقت معبر عن المرونة الداخلية التي تحكم التنظيم، ودليل ثقة بانحسام الوعي الجماعي حول كثير من خيارات العمل العام. في المجال السياسي المفتوح يلوح الإصلاح بحركته النشطة متخففا من ضغط المخاوف الذاتية، وثقل الأفكار والرؤى المتصلبة، وهو ما يعكس قدرة فائقة على إدارة قضاياه بأسلوب مرن لا يقف طويلا أمام معيقات الداخل، سيما المعيقات النظرية، نظرا لأولوية القضايا التي يواجهها على صعيد الخارج، والتي تعمل على تحريك الراكد فيه على نحو يؤمنه الغرق في السجالات اللفظية والكلامية، التي عادة ما تستقطب كثيرا من المتبطلين هواة الجدل والمحاججة. الإصلاح حزب جديد تجمع في قلب التحديات الجديدة، ونشأ وقوي و اشتد عوده في ميادين العمل، لا في الأدبيات والتنظيرات، العمل فيه كثيرا ما يسبق التنظير، وهذه ميزة تحسب له، فالغنى التنظيري قليلا ما يجعل توجهات كثيرة منظورة، التأطير النظري والفكري يأتي تالياً، ثمة أولوية لمتطلبات الواقع وتحديات العمل. الإصلاح اعتمد منذ البدء الارتطام بمعوقات الحضور في الساحة السياسية العامة، ومن الغريب أن يذهب بعض منتقديه للبحث عنه داخل أدبيات سابقة في فتوى هنا أو هناك أو مقولات ورؤى إخوانية بعيدة، منقطعة عن سياق الزمان والمكان. حظي الإصلاح من النقد بما يستحقه كحزب كبير، باعتبار أننا لا ننتقد إلا من يعنينا أمره ، هذا النقد يبدو على مستويات من حيث القيمة، ثمة نقد موضوعي جاد استفاد منه الإصلاح كثيرا، وثمة نقد مسكون بأفكار مسبقة يأخذ منحى تعميميا، فيه الكثير من التعسف. وهناك ما أسميه النقد الأدبياتي ويعتمد التفتيش في الإرث والأنساق المغذية للوعي والمشكلة للتصور. هذا النقد كثيرا ما يتعامى عن النظر إلى الإصلاح خارج النصوص وهو مالئ الساحة عملا وتوثبا واحتضانا للقضايا الجديدة وترسيخا للتوجهات الوطنية الحديثة، وكما لو أن هذا الحضور لا يعد خطابا أساسيا يفرض على الباحث منطقه الخاص دون أدنى مشقة أو عناء. يناقض البعض نفسه حين يحكم بتخلف الإصلاح نظرا لتعثره بقول متخلف هنا أو هناك في مدونات سابقة، في حين يقفز بنزق فوق مسيرة الإصلاح العملية وفوق خطاب الإصلاح وشعاراته التي تملأ ساحاتنا بوضوح لا تخطئه العين. ما يزال البعض يتحدث عن الديمقراطية عند الإصلاح باعتبارها تكتيكا، وعن شعاراته الكبيرة التي يلح عليها ليل نهار على أنها جزء من ذلك التكتيك، وهو منطق لا يصمد أمام هذه الروح الصادقة التي لا يمكن أن تدين نفسها بسهولة حين ترفع شعارات تخالف صدقها بصورة مفضوحة. بالله أين يذهب هذا الخطاب المتحدث عن الديمقراطية والحرية والتعددية وقضايا المواطنة؟! أين يذهب هذا الأداء المشهود على امتداد ثمانية عشر سنة، إن لم يكن منطلقا من قناعات راسخة تسعى لجعله خطابا أكثر رسوخا في الأعماق. الإصلاح حزب سياسي جديد تبدو جدته في هذا المسار الواضح المتجه صوب المدنية دونما توتر أو تناقض مع إسلاميته الصريحة. الإصلاح حزب مدني وما المدنية؟ ألا تعني قضايا الحقوق والحريات، قضايا المواطنة، قضايا الحكم الرشيد، دولة النظام والقانون، الإيمان بالتعددية والديمقراطية والشفافية والانفتاح على الآخر، العمل من أجل بيئة عادلة يضمن الجميع فيها حق الاختلاف وتتقلص فيها الخصومات وتتسع دائرة العمل المشترك. هذا كله لا يعني الرضا التام عن الذات، فثمة نقد داخلي حريص فيه حرقة واحتراق، وتشوف لما يرى الإصلاح أهلاً له، فثمة إمكانات هائلة لحضور أكبر من ما هو عليه، وهذا النقد يجب على قادة الإصلاح أن تصغي إليه جيداً، لأنه يعكس خصوبة الروح الإصلاحية وغناها الكبير وطموحاتها المتجاوزة. *المقال نشر سابقاً بتاريخ: 21/03/2009