عندما كتبت عنه لأول مرة في جريدة "الشرق الأوسط" خلال الثمانينات قلت: أنه كان أحد أشجع الناس في اليمن الجنوبية خلال الاستعمار البريطاني في عدن وما كانت تسمي المحميات ولما ألف وأصدر كتابه "الاستقلال الضائع" وقبل الوحدة المباركة تأكدت لي جسارته وصراحته وعدم مبالاته بمن قد يغضب منه كما حدث له بالفعل. لكنه كان في مأمن بعد انتقاله الى اليمن الأم والاستقرار في صنعاء ومزاولة تجارته في بيع الأدوية التى اشتهر بها في عدن بعد افتتاحه لصيدلية "الشرق" التي كانت تقع في كريتر قبل ان تقع ضحية للتأميم الشامل بدون تعويض طبعاً كما حدث لبقية المؤسسات التى اشتهرت بها عدن. وكانت خسارته فادحة بعد ما ازدهرت أعماله وتربع الأستاذ المجاهد عبده حسين الأدهل قمة تجارة الأدوية لعدة سنين سبقت نيل الاستقلال. تحدر السيد عبده حسين من أسرة شمالية الجذور أمه من مواليد جبل مسعود قرية الولي المؤيد ابن مسعود محافظة إب وتنتمي الى أسرة بيت العبيدي من قبيلة الحشابره بينما كان جده الشيخ الأدهل من محافظة الحديدة، كما جاء في سيرته الذاتية. نال الشهادة الاعدادية عام 1930 ثم تتلمذ على فضيلة العلامة الشيخ قاسم صالح السروري قبل ان يعمل مع والده في التجاره في عدن والصومال البريطاني الذي كان أيضاً مستعمرة. ولما عاد الى عدن انهمك في الأعمال الخيرية طيلة حياته وكانت له اسهامات عديدة منها جمعيه الهلال الأحمر والمستشفى الفارسي بحي القطيع وخاصة جمعية مكافحة مرض السل الذي كان منتشراً في الجنوب كما أسس مدرسة النهضة في الشيخ عثمان وخلق فرصاً للعمل للنازحين من الشطر الشمالي بعد فشل ثورة 1948 التي كان لروادها علاقات قوية معه كما أشار اليها في كتابه. ولما كانت جزءاً من تاريخ اليمن أود ايراد شهادته فيها سيما وانه أشار الى نزوح الوف الأهالي من الشطر الجنوبي بعد الاستقلال حيث استقبلتهم الحكومة بعد 1968 بالترحاب وعاملتهم على قدم المساواة مع اخوتهم في كل أنحاء اليمن. وكان الرئيس القاضى عبدالرحمن الاريانى قد آفرد لأهل الجنوب عدة مقاعد في مجلس الشعب حتى وان ظلت خالية في حينها حتى تحقيق الوحدة المباركة الكاملة عام 1990. في نزوح الأحرار الى الجنوب يقول المؤلف: "بعد فشل ثورة 48 التي أدت إلى مقتل الإمام يحيى بن محمد حميد الدين وتولي ابنه الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين مقاليد الحكم واستشهاد العديد من خيرة الوطنيين من فقهاء وأدباء وشعراء، تكبدت اليمن بفقدهم خسارة كبيرة. كما سجن العديد من الأحرار الوطنيين في سجون بدائية. وقد توفي الكثير منهم في السجون نتيجة التعذيب والأمراض والمعاناة التي تعرضوا لها. "واستقبل العدنيون وأشقاؤهم من أبناء الشمال النازحين إلى الجنوب وأكرموا مثواهم والتفوا حولهم وفي مقدمتهم شهداء الحق والعقيدة أبو الأحرار المرحوم / القاضي محمد محمود الزبيري والمرحوم عبدالله بن علي الوزير اللذان نزلا ضيفين على نسيبي الحاج محمد سلام حاجب. كما نزل ضيفاً علي وفي منزلي المرحوم الفضيل الورتلاني في الشيخ عثمان مع عدد من أحرار اليمن الذين وفدوا إلى عدن بعد فشل الثورة. وقد جرت محاولة اعتداء على الأستاذ الورتلاني آخرها محاولة اغتياله بقذف قنبلة يدوية على غرفة في منزلي حيث كان ينام كما أطلق (خالد سالم مبارك) رفيق وحارس سيف الحق إبراهيم رصاصة من مسدسه على أحد المتظاهرين أصابت منه مقتلاً وهو يحاول مع جمع غفير الاعتداء على مبنى الجمعية اليمنية في عدن وقد قبضت الشرطة على خالد بعد الحادث ولكني كلفت أخي عثمان حسين الأدهل بتقديم كفالته وأفرج عنه بكفالة وحوكم أمام محكمة عدن حيث دافع عنه الأستاذ / محمد علي لقمان المحامي الذي استطاع إقناع محكمة عدن بأن إطلاق الرصاص كان دفاعاً عن النفس ولم يكن اعتداء وأخذت المحكمة بأقواله وأفرج عن خالد بغرامة مالية. وفي أثناء العمل المشترك مع الزعامات الوطنية الشمالية، اقترح الأستاذ الورتلاني علي إقامة مدرسة تضم أبناء الوافدين من الشمال وفي نفس الوقت توفير فرص العمل فيها للنازحين من أحرار اليمن. وقد استحسنت أقتراح الأستاذ الورتلاني وبمشيئة الله تعالى وفقت دون عناء في الحصول على بناية تفي بالغرض لإقامة المدرسة أسستها بما يلزم من مقاعد ووفرت لها الكتب المدرسية وما تحتاج إليه المدرسة من أثاث وأسميتها (مدرسة النهضة العربية). وعينت لها مجلس إدارة للإشراف الفني والإداري مني ومن الأخوة صالح علي لقمان ومحمد حسن خليفة وعبد الله حامد خليفة ويوسف حسن السعيدي وكنت أقوم أنا بسداد نفقات المدرسة المالية بينما يقوم مجلس الإدارة بالإشراف الفني والإداري كما عينت مدرسين لها من الأشقاء أحرار اليمن الذين وفدوا إلى عدن. "وفي عام 1957 ضمت مدرسة النهضة إلى كلية بلقيس تحت إشراف الأخ / حسين علي حبيشى عميد الكلية بعد أن شيدت بناية فخمة لمدرسة النهضة بجوار كلية بلقيس وبانضمام مدرسة النهضة إلى كلية بلقيس أصبحت جزءاً مكملاً للكلية التي أسهم في إنشائها لفيف من التجار المقاولين الشماليين مثل شمسان عون وسلام علي ثابت ومحمد عثمان ثابت وهايل سعيد أنعم. "لقد وفرت النهضة العربية التعليم لأبناء النازحين من الشمال مع أسرهم. كما وفرت أيضاً التعليم لأبناء الريف (محمية عدن) والذين كان قانون بريطانيا في عدن يحول دون قبولهم في المدارس الأخرى التي شيدها مواطنون لنفس الغرض وهي مدرسة بازرعة الخيرية والمدرسة الأهلية بالتواهي والمعهد التجاري في الخليج الأمامي في عدن ومدرسة الإنقاذ الإسلامية والمعهد الإسلامي الذي شيده فضيلة الشيخ محمد بن سالم البيحاني. ولما كان في عدن علم المؤلف عام 1947 ان المجاهد الأكبر الأمير عبدالكريم الخطابي مفجر ثورة المغرب العربي ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي سيكون على ظهر الباخرة "كاتومبا" القادمة من منفاه في جزيرة ريونيون المستعمرة الفرنسية في الهندي بعد قضاء عشرين عاماً معتقلاً فيها. فاستقبله مع آخرين من الأهالي واكرم وفادته خلال الساعات التي توقفت الباخرة فيها قبل مواصلة الرحلة الى قناة السويس. وراح يبرق الى كافة الجهات التي يهمها الأمر رغم الاستعمارين البريطاني في عدن والفرنسي في جيبوتي لانقاذ الأمير من الأسر الثاني الذي كان ينتظره. وأهم برقياته تلك التي بعثها الى المجاهد محمد علي الطاهر صاحب ورئيس تحرير جريدة "الشورى" في القاهره التي كانت تحمل لواء التحرير العربي في كل مكان. وقام الطاهر بحكمته المعهودة بارسال استغاثة الى جلالة الملك فاروق الذي تحلي بقوة ارادة نادرة إذ أمر بانزال الأمير من الباخرة واستضافته في مصر متحدياً فرنسا الدولة الكبرى آنذاك وبريطانيا التي كانت طائراتها القاذفة في عدن على بعد ثلاث ساعات فقط من قناة السويس. ولما حدثته في منزله في صنعاء وقد بلغ الخامسة والتسعين تبين لي انه يعاني من مرض الروماتزم الذي ألزمه بيته كما كانت تداعيات الجلطة القلبية التي أصيب بها لاتزال ظاهرة. لكنه استمع واجاب وانا اتمني له الشفاء ودوام الصحة بإذن الله تعالى. ........... * المقال نشرته الصحيفة في وقت سابق.