ذرف دموع التماسيح على الماضي هي إحدى متلازمات الخطاب السياسي والإعلامي لفلول الأنظمة التي تضررت من ثورات الربيع العربي.. وأشهر عبارات هذه المناحاة في مصر هي عبارة: (فين أيامك يا مبارك؟) أو: (ولا يوم من أيامك يا مبارك!). وعلى المنوال نفسه فهناك عبارات مماثلة تروج في بقية البلدان ووفق اللهجات المحلية، ولأنني لا أستطيع مجاراة اللهجتين التونسية والليبية فأقتصر على أصحابنا في اليمن الذين لا شك أنهم ليسوا بفهلوة المصريين لكن على الأقل يمكن أن نلاحظ عندهم شيئا مثل: ( الله يرحم أيام الإمام.. مقصدي: أيام الزعيم!).. ومن مثل: (وين أيام السبعين والرز والدجاج؟). وكما هو مفهوم فإن جماعات: (فين أيامك؟ وفين الرز والدجاج؟) تعد أن الأوضاع بعد سقوط المخلوعين العرب صات سيئة ومتدهورة بما لا يقاس؛ على العكس مما كان الأمر قبل الإطاحة بالزعماء الذين كانوا يظنون أنهم مثل بريطانيا في عز مجدها عندما كانت الشمس لا تغرب عن مستعمراتها بسبب انتشارها في جميع أنحاء الكرة الأرضية.. وهؤلاء المخلوعون كانت السلطة أيضا لا تغرب عنهم بأي انتخابات تتم ولو أشرف عليها الجن وليس فقط هيئات الرقابة الدولية.. فكذا أو كذا لا بد أن يفوزوا بالانتخابات هم وأحزابهم الحاكمة إلى الأبد ولو كانت البلاد خرابا يبابا!
ولو أخذنا مثالا عن الوضع في بلاد اليمن؛ فمن بدهيات الحياة أن وضع البلاد لا يمكن أن يسقط في دائرة السوء فجأة وبدون مقدمات، كأن يستيقظ الشعب صباح أحد الأيام فيجد أن الكهرباء بدأت تنقطع كل ساعتين؛ بعد أن كانوا قد احتفلوا في الليلة السابقة بمناسبة مرور ثلاثين عاما على آخر انطفاء كهربائي حدث في بلاد السعيدة، وسمعوا وزير التجارة يتحدث عن تصدر بلادنا قائمة مصدري الطاقة الكهربائية إلى دول الخليج، وينصح التجار بإعادة تصدير كميات الشموع والمولدات الكهربائية إلى الخارج!
أو يكتشف الشعب اليماني يوما ما أن نسبة البطالة بين اليمنيين وصلت إلى معدل مخيف؛ مع أن وزير العمل كان قبل أيام يشكو من انعدام الأيدي العاملة، ويطالب الحكومة باستقدام مليون عامل من الخارج بأقصى سرعة ممكنة لسد حاجة السوق المحلية للعمال!
أو يخرج اليمنيون مثلا كعادتهم أسبوعيا لشراء حاجياتهم من السيارات الجديدة، ورمي القديمة في البحر؛ فيجدون أن هناك فقراء والعياذ بالله يشحتون في الشوارع! ثم يقرأون باندهاش أن نسبة المواطنين تحت خط الفقر وصلت إلى 50%.. مع أن وزير الرفاهية الاجتماعية كان عصر أمس في وسائل الإعلام وفي القناة التلفزيونية الرسمية يصرخ من أنه لا يجد يمنيا محتاجا إلى الضمان الاجتماعي أو الزكاة، وأنه لا يدري ماذا يصنع بمليارات الدولارات التي خصصتها حكومة الزعيم زكاة وصدقات بعد أن اغتنى الجميع!
كذلك ليس من المعقول أن يفتح المسؤولون في صندوق النقد الدولي عيونهم صباح أحد الأيام ليقرأوا تقريرا يحذر أن اليمن أفقر البلدان العربية؛ رغم أنهم ناموا عشاء وهم يخططون لإقناع اليمن وزعيمها بتقديم مساعدات بخمسين مليار دولار فائضة في موازنة الشهر الماضي إلى دول فقيرة مثل السويد والإمارات وقطر!
وفي الحالة المصرية؛ فإنه من المعقول أن يصحى المصريون من النوم بعد خلع مبارك ليفاجئوا أن أم الدنيا تتصدر العالم دون منافسة في أمراض السرطان والكبد الوبائي، وتلوث مياه الشرب واختلاطها بمياه المجاري؛ وهم الذين شاهدوا العالم يكرم مبارك وحكومته بعد قضائهم على أمراض الزكام والسكر!
أما الفساد فهو فاجعة الربيع العربي وفق قاموس إعلام المخلوعين.. فلأول مرة في تاريخ بلدان مثل مصر واليمن وليبيا وتونس تسمع الشعوب في صباح يوم أغبر مصطلحات مثل: (الفساد – الفاسد – المفسد -الرشاوى).. واحتاجت الجماهير إلى نزول الزعماء السابقين بأنفسهم لتهدئة مخاوفها، وليشرحوا لها معاني هذه الكلمات الجديدة الغامضة، ووعد من وزير التربية والتعليم بتعديل المناهج فورا لتتضمن مواد توعوية عن هذا المرض الجديد غير المعروف في اليمن وأمثالها! ولا تسألوا عن الصدمة التي ضربت الجماهير اليمنية خاصة وهي وتسمع أن اليمن صار لا يعرف الشفافية بعد أن كان كل شيء مكشوفا للشعب ويتم بمشورته؛ حتى أنه هو الذي اتفق مع الشركة الكورية على تسعير الغاز الطبيعي؛ بعد أن رفض الزعيم وحكومته التدخل في هذه العملية خوف الوقوع في جزء واحد من الحرام ولو بحسن نية، ورافعين شعار: (غروا غيرنا.. حد الله بيننا وبين الشبهات)!
وزادت الصدمة النفسية واليمنيون يسمعون أن الدور الرقابي للبرلمان والأجهزة الرقابية ضعيف.. ومنظومة مكافحة الفساد (كان اسمها: النصيحة في السر!) ضعيفة وفاشلة .. بعد أن كانت تقوم بدور عالمي في مكافحة الفساد خارج البلاد وليس داخلها (الحقيقة أنه لم يكن لها دور يمني بسبب خلو اليمن تماما من الفساد أيام الزعيم!)!
وللتدليل على أن الفساد وكل الاتهامات الوسخة التي توجه الآن لعهد ما بعد خلع المخلوع هي من مخلفات النظام السابق؛ تعالوا نقرأ ما قيل إنه تعليقات لعدد من الخبراء الاقتصاديين اليمنيين (المشفّرين بدون أسماء!) على تقرير منظمة الشفافية الدولية حول مؤشر مدرجات الفساد في اليمن، واستشهدت صحيفة المخلوع فيه أن اليمن تأتي في صدارة الفساد العربي بناشط في مجال الشفافية والنزاهة (رغم أنه تسبب قبل سنوات في أن تتخذ الملحقية الثقافية في السفارة الأمريكية إجراءات مشددة لطالبي الحصول على منح مجانية للدراسة في المعهد الامريكي: يالي.. بعد أن اكتشفوا أن كل المنح التي حصل عليها المشار إلى شفافيته ونزاهته لمنظمته راحت لأولاده حصريا!).. المهم فضح الله مكافحي الفساد الجدد على لسان الخبراء الذين جيء بهم مشفّرين بلا أسماء لكشف أسباب الفساد في البلاد اليمانية، ففضحوا فيها أنها نتيجة حتمية لسياسات النظام السابق الذي حكم وأسس وقنّن للفساد وآليات مكافحة الفساد لحماية نفسه وبطانته حتى سخر اليمنيون منها وسموها: هيئات مكافأة الفساد.. وبعد أن تقرأوا اعترافات صحيفة الزعيم؛ لا تنسوا أن تقولوا: الله يستر عليك يا يمن!
ماذا قال الخبراء؟
-[هناك قصور وقيود في مهام واختصاصات الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وآلية عمله، وإلقاء العبء الكبير على نيابات الأموال العامة في نظر قضايا جرائم الفساد؛ فضلا عن قصور وقيود في مهام واختصاصات الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد وآلية تشكيلها!]
-[تبعية جهاز الرقابة والمحاسبة لرئاسة الجمهورية لا تلبي الاستقلالية والشفافية لهذا الجهاز؛ إذ لا يستقيم الوضع أن تراقب السلطة التنفيذية نفسها.. ويؤكد ذلك أن الجهاز لا يستطيع أن يراقب الصفقات التي تبرم لشراء الأسلحة، وما تتضمنه من قضايا فساد كبيرة حيث تكون بعيدة عن الرقابة والشفافية والمساءلة بريعة السرية!]
-[أشاروا إلى وجود عائق دستوري وقانوني متمثل في المادة 139 من الدستور والقانون رقم 6 لسنة 1996 بشأن إجراءات اتهام ومحاكمة شاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا في الدولة، والقانون رقم 3 لسنة 2004 بشان مجلس الوزراء. وذلك بتمتع أصحاب تلك الفئة بالحصانة وما تشكله من عائق قد يحول دون محاكمة شاغلي الوظائف العليا!
ولأن الاستهبال في هذا البلد مؤسس منذ زمن؛ فلاحظوا هذا التناقض والضحك على الذقون في استخدام التقارير الدولية حول الفساد؛ فعنوان تقرير صحيفة المخلوع عن تقرير منظمة الشفافية الدولية حول مدركات الفساد في القطاع العام كان يقول:
[ حكومة باسندوة الأكثر فسادا في العالم!].. رغم أن نصف أعضائها من المؤتمريين والتابعين لهم، وفي نهاية التقرير أنطقهم الله ليؤكدوا أن:
[في حال حصلت الدولة على درجة منخفضة لا يعني ذلك أنها أكثر الدول فسادا (!) كون المؤشر هو انطباع عن الفساد في القطاع العام السياسي (المؤتمر مهيمن على نصف الدولة على الأقل!) والإداري (الذي يهيمن على أغلبيته قيادات مؤتمرية)، وهو ليس حكما على مستوى الفساد في الدولة أو السياسات أو الأنشطة الاقتصادية(!)، ويوفر المؤشر مقارنة بين الدول مع نتائج العام السابق فقط؛ لإعطاء انطباع واضح حول كيفية قراءة النتائج خلال عامين من الزمن]. والذي ما يعرفش الطب يقول: فين أيامك.. يا زعيم؟