استشهاد نجل مستشار قائد محور تعز العميد عبده فرحان سالم في مواجهات مع المليشيا    اسعار الذهب في صنعاء وعدن السبت 3 مايو/آيار2025    صنعاء تصدر قرار بحظر تصدير وإعادة تصدير النفط الخام الأمريكي    عقد أسود للحريات.. نقابة الصحفيين توثق أكثر من 2000 انتهاك خلال عشر سنوات    هذا ما حدث وما سيحدث.. صراع العليمي بن مبارك    مانشستر سيتي يقترب من حسم التأهل لدوري أبطال أوروبا    عدوان مستمر على غزة والاحتلال بنشر عصابات لسرقة ما تبقى من طعام لتعميق المجاعة    إصلاح الحديدة ينعى قائد المقاومة التهامية الشيخ الحجري ويشيد بأدواره الوطنية    اللجنة السعودية المنظمة لكأس آسيا 2027 تجتمع بحضور سلمان بن إبراهيم    خلال 90 دقيقة.. بين الأهلي وتحقيق "الحلم الآسيوي" عقبة كاواساكي الياباني    الهلال السعودي يقيل جيسوس ويكلف محمد الشلهوب مدرباً للفريق    في حد يافع لا مجال للخذلان رجالها يكتبون التاريخ    غارات اسرائيلية تستهدف بنى تحتية عسكرية في 4 محافظات سورية    احباط محاولة تهريب 2 كيلو حشيش وكمية من الشبو في عتق    إذا الشرعية عاجزة فلتعلن فشلها وتسلم الجنوب كاملا للانتقالي    سنتكوم تنشر تسجيلات من على متن فينسون وترومان للتزود بالامدادات والاقلاع لقصف مناطق في اليمن    الفريق السامعي يكشف حجم الاضرار التي تعرض لها ميناء رأس عيسى بعد تجدد القصف الامريكي ويدين استمرار الاستهداف    مسلحون يحاصرون مستشفى بصنعاء والشرطة تنشر دورياتها في محيط المستشفى ومداخله    الطيران الأمريكي يجدد قصف ميناء نفطي غرب اليمن    وزير سابق: قرار إلغاء تدريس الانجليزية في صنعاء شطري ويعمق الانفصال بين طلبة الوطن الواحد    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا زلت أتألم ..
في ذكرى ملحمة جمعة الكرامة .. شهادة متأخرة ومشاعر لا زالت مكبوتة
نشر في الصحوة نت يوم 20 - 03 - 2014

رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات على انطلاقة الثورة في 11 فبراير ، وعلى جمعة الكرامة في 18/3/2011م وماقبلها وبعدها، لا زلت أعاني من حالة الصدمة والألم ومحاولات نفسيه لا شعورية في داخلي لإنكار مجازر نظام المخلوع التي عايشتها ضد الثوار ومحاولة نسيان ضحايا هذه المجازر من الشهداء والجرحى .
نعم لا زلت أتألم وأتجرع الألم رغم أن الثورة قد قطعت مراحل كبيرة في طريق التغيير وتحقيق أهدافها بخطى راسخة وبعزم وإيمان بالغد المشرق الذي يتراءى نوره أمامنا رغم كل المعوقات والعراقيل.
لا زلت أتماسك وأحبس دموعي حرجاً وأنا أعبر جولة الكرامة .. وأمشي في الساحة على أطلال الخيام ومعالم الاعتصام وأنا أتلفت يميناً وشمالاً وأرى صور الشهداء تحيط بي كأنهم شخصيات عظيمة حية ذوي قامات طويلة ينظرون إليّ وأنا أتمعن فيهم وألقي عليهم التحية وألهج لهم بالدعاء .. وربما غافلتني عيناي بدموع مكبوتة أسارع لإخفائها والمضي قدماً في طريقي حتى لا ألفت الانتباه .
كلما تمعنت في صورة أحد الشهداء أشعر بأنه أحد معارفي أو أقاربي رغم أني ربما لم ألتق به بتاتاً في حياتي، ربما ليس هذا شعوري وحدي، لكني لا أدرك ما هو سر هذه الحميمية والتقارب بيننا وبين هؤلاء الشهداء ..
لم يكن هؤلاء الشهداء –كما قد يظن البعض- شباباً عاطلين ولا مهملين ولا نكرات في مجتمعهم، تمعنوا في سيرهم وحياتهم ، إنهم من خيرة الشباب ديناً وخلقاً .. كثيرٌ منهم حافظ للقرآن أو لقدر كبير منه .. بعضهم لا زال يدرس في الجامعة .. بعضهم لا زال في أولى سنوات زواجه .. بعضهم كان لديه مشروعات اقتصادية ناجحة، أكثرهم كان المستقبل أمامهم يرسمون على محيَّاه أحلامهم العظيمة مهما كانت الصعوبات والعقبات التي كان النظام الفاسد المفسد يزرعها في طريق اليمن واليمنيين.
تُرى هل انتهت حياة هؤلاء الشهداء أم أنها بدأت، حفظت قديماً قول الشاعر:
كم مات قومٌ وما ماتت مكارمهم ** وعاش قوم وهم في الناس أحياء
نعم هم أحياء ، ليست حياة معنوية ببطولاتهم وتضحياتهم ، بل هم أحياء حقيقة كما قال ربنا (بل أحياء) قد لا ندرك كنه حياتهم عند ربهم، لكننا مؤمنون بقول ربنا، بل إن هناك إحساس غامر لا نستطيع وصفه نشعر وكأن الشهداء أحياء بيننا خصوصاً إذا كنت على صلة وثيقة بأحدهم تشعر بأن روح هذا الشهيد تعيش معك وترقبك، قال لي أحد رفاقي : الكثير منا كان معرضاً للقتل .. لكن كلما تفحصت هؤلاء الشهداء وجدت أنهم من خيرتنا ومن أفاضل الثوار، حينها أدركت جيداً معنى الاصطفاء والاختيار (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) .
**
في إحدى الليالي الأولى من الاعتصام حين تواترت الأخبار بأن هناك هجوماً من قبل البلاطجة على الاعتصام ، وقفت مع الشباب للحراسة جهة شارع العدل، وهي من الليالي المشهودة التي قام الثوار كلهم بكتابة وصاياهم وتوديع أحبائهم ، المهم أنه حين هدأت الأمور قليلاً وقفنا لشرب الشاي وأحببت أن أوجههم لتفادي الرصاص–كما ظننت- فقلت لهم : يا شباب ، المفروض إذا سمعتم صوت الرصاص فعليكم فوراً أن تنبطحوا .. حينها شاهدت على وجوه الشاب السامعين علامات الاستغراب ، قالوا : لو انبطحت فستأتي الرصاصة في الثائر الواقف بعدك (وكانت الحراسة صفوف متتابعة) فالأفضل أن تتلقاها أنت عن أن تصيب الرصاصة من خلفك من رفاقك الثوار. حينها سكت خجلاً ومندهشاً من هذه النفوس الممتلئة فداء وتضحية . والتي علمتني بأفعالها قبل أقوالها معنى الفداء والتضحية.
**
على مداخل الساحات ومخارجها وقف الثوار حراساً يقظين شجعاناً .. وفي جميع الظروف .. تحت الشمس وفي ظلام الليل ، في الصحو وتحت المطر ، في الحر والبرد، في الخوف والاطمئنان ، وقفوا يتناوبون الحراسة بلا كلل ولا ملل .. ولا شكوى ولا تأخر .. ولا تباهي ولا تفاخر ..
أمامنا نماذج أخرى نعرفها كانوا يباتون في فرشهم الهنيئة ، ويمارسون أعمالهم الاعتيادية ويقضون أغراضهم الضرورية والثانوية ، ويقعدون على الموائد الشهية.. ثم يمارسون على الثوار التنظير والانتقاد .. ويحذرون من الأخطار المحدقة بالثوار والتي من أهمها بنظرهم محاولة سرقة الثورة والاستئثار بالمنصة وما إلى ذلك من الأراجيف والمعارك الوهمية التي كان يطبخها النظام المخلوع ويحاول بها البلبلة في الصفوف.
**
يوم كان البعض ولا زال يمسي ويصبح وهو يحسب أرباحه وخسائره الشخصية في ظل الأوضاع المادية الصعبة التي كان الوطن يمر بها ، انطلق الثوار للمشاركة في الثورة، بلا تردد ولا خوف ، شاركوا في المسيرات والاعتصامات والفعاليات ، ولم يبالوا بتوقف أعمالهم أو تجارتهم ولا بخصم مرتباتهم .. لم يكن في ذهنهم حسابات الربح والخسارة المادية الشخصية ، كانت الأهداف العظيمة نصب أعينهم، ومصير الثورة والوطن هو همهم الأكبر.. لم يبالوا بتهديدات الفصل والتعسف ، ولم يفكروا كثيراً بتوقف مصالحهم . أحد أصدقائي الثوار من المعلمين المضربين (حسين) كان يطرفنا كل شهر وهو يطلعنا بابتسامة هادئة أنه لم يتبق من راتبه بعد الخصومات الجائرة سوى 400 ريال بما يساوي 1% من الراتب. فلا نملك إلا أن نعزيه بأن الفرج قريب ونوصيه بالصبر.
**
تحية وتعظيم لهؤلاء الثوار الأبطال ، لمن بقي مناضلاً ، ولمن قضى شهيداً .. نعم تحية لهؤلاء الشهداء الأبطال المغاوير الذين وقفوا في مقدمة الصفوف، حين كان البعض يتوارى خلف السواتر والأبنية حين يلعلع الرصاص .. كان هؤلاء يتسابقون ليفدوا إخوانهم من الرصاص والغازات والأحجار .
أحتار فكراً فيما يمكن أن نقدمه من تكريم وتعويض لهؤلاء الشهداء .. مهما قدمنا لذكراهم ولشخصياتهم من تقدير وتنويه ، أو لأهاليهم من تعويضات وترتيبات، لا شيء في الدنيا يكافئ التضحية بالنفس وبالحياة .. عزاؤنا ما ذكره ربنا من الجزاء العظيم والحياة الخالدة والرزق الدائم للشهداء ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران:169-171]
**
رغم معاناتي من نسيان الأحداث والأسماء .. إلا أن أيام وأحداث الثورة المشهودة والمميزة لا زالت ماثلة في ذهني وكأني عشتها بالأمس .. لا زالت جمعة الكرام بأحداثها وتفاصيلها منذ أن انطلقت من منزلي قبل الصلاة حتى عدت قريب منتصف الليل إلى منزلي القريب من الساحة.. يومها أذكر أنني لم أتناول طعام الإفطار ولا الغداء وحتى حين قُدم العشاء أمامي بعد عودتي لم أستطع حتى أن أنظر إلى الطعام ، اكتفيت بإلقاء جسدي المتعب والمنهك بعد معركة حامية الوطيس كأنها استغرقت أياماً عديدة وليس يوماً واحداً ، حينها وضعت منشفة على رأسي وظللت أبكي إخواني الشهداء والجرحى ولا أظن أني نعست حينها بل كأني أغمي عليَّ .. قبلها كنت قد فتحت قناة سهيل وهي تتابع نشر صور المجزرة وأسماء الشهداء ، اكتفيت بسماع الصوت فلم أعد أحتمل رؤية صور الدماء بعدما عاينته طوال النهار.
يومها انطلقت قبل صلاة الجمعة بأكثر من ساعة، وكنت أقود سيارتي إلى قرب محطة الرباط وأركنها جانباً ثم أسير راجلاً إلى الساحة، لكن في ذلك اليوم قامت مجموعات البلاطجة بشكل منظم ومُعد بإغلاق الشوارع الخلفية والجانبية حول الساحة ووضع المتاريس والعوائق واضطررت كغيري للعودة بالسيارة إلى قرب المنزل ثم العودة راجلاً، ومع ذلك كانت هناك مجموعات من البلاطجة تمنع حتى المارين على أقدامهم وتوجههم للصلاة في المساجد الأخرى على الطريق ، بعض الثوار المتوجهين كانوا على شكل مجموعات فاقتحموا صفوف البلاطجة ، بعضهم كان يسلك طرقاً فرعية متشعبة حتى يصل ، اكتفيت بالحيلة المقرونة الإصرار حتى تركوني أمر. كانت هذه العوائق ضمن الخطة الشيطانية التي وضعها المجرمون وأظن أن الهدف منها هو الاستفراد بالثوار المعتصمين في الساحة لأنه إذا تم القضاء عليهم وتفريقهم فقد تحققت أهدافهم، إلا أن الجموع توافدت وتجمعت رغم كل العوائق.
تفاصيل أخرى كثيرة لا زلت أذكرها، لم يهتم أحد إلى الآن بسماع مشاهداتي ومشاهدي سواء من الثوار أو غيرهم ، ربما لأن الشهود الذين حضروا هذه الجريمة وعايشوها أكثر من اللازم، ولا أظن أن هناك جريمة ارتكبت أمام مثل هذه الجموع من الشهود.. بل إن الشعب اليمني كله كان يشاهدها مباشرة عبر القنوات الفضائية .. ترى أي محكمة تستطيع سماع كل هؤلاء الشهود وفرز شهاداتهم وقيدها .. ومع ذلك لا زال المجرمون الذين قاموا بها يحاولون التبروء من جريمتهم والتنصل عما قاموا به رغم أن الحقيقة صارت واضحة للعيان بالأسماء والمواقع والتفاصيل وحتى اعتراف بعض المشاركين الفرعيين بها،
ليست هذه الجريمة بعيدة الشبه عن جريمة أصحاب الأخدود التي خلدها القرآن الكريم حينما حفر الطغاة الجبابرة الأخاديد وأوقدوا النيران وألقوا الناس فيها ، وهم يظنون أنهم سيقضون بذلك على التوحيد والموحدين وسينفردون بالسطوة والجبروت، إلا أن هذه الأخاديد كانت في الحقيقة هلاكاً وتدميراً لهم ولطغيانهم (اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) .
شاهدنا يومها طائرة الهيلوكبتر تحوم قبل الجريمة بدقائق ، وقيل حينها أن كبيرهم بنفسه يعاين موقع الجريمة ، وأعطى إشارة البدء وأمر التنفيذ (بالتلفون كما هي عادته في إدارة الدولة وفي تنفيذ الجرائم).
لا أظن أن هذه الجريمة تحتاج لهذا الكم من الشهود ، فالمجرمون قد أقروا واعترفوا بأنفسهم بالتخطيط والتدبير لها، فضحتهم أقوالهم ونظراتهم وأيديهم المرتعشة، بالصوت والصورة ظهرت اعترافاتهم على أنفسهم وعلى بعضهم البعض . قاموا بأنفسهم باستدعاء وسائل الإعلام وظنوا أنهم سيخدعون الناس بكذبهم ودجلهم ، إلا أن أقوالهم صارت أدلة عليهم وأفعالهم تؤكد جرمهم (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:46]
لقد رأيت بنفسي بعد أن ملأ الدم الجدار الفاصل والماء الذي صبه الثور على السور لإطفاء الحريق قد تحول للون الأحمر، وحين رأيتني عاجزاً عن أي فعل قمت بالالتفاف حول السور واستأجرت دراجة نارية إلى موقع البلاطجة خلفه .. رأيت كاميرا القناة اليمنية وأحدهم يوجه المصور لتصوير بعض الأحجار الصغيرة التي ألقيت على السيارة المدرعة لمكافحة الشغب لكي يصوروا بزعمهم همجية الثوار أنهم ألقوا بعض الأحجار على سيارة الأمن !! بينما كان صوت الرصاص يلعلع في الأرجاء في نفس الموقع..
في ذلك الوقت كان شباب الثورة يحاولون فتح ثغرة في جدار السور لملاحقة مطلقي النيران عليهم خصوصاً من بيت الأحول المشهور.. تراجعت قليلاً لأجد أحد البلاطجة وهو يلبس ثوباً متسخاً وحزام على بطنه ومتلثماً بشال أبيض وسخ مثل صاحبه والبندقية الآلية بيده وهو يطلق تجاه السور والمعتصمين.. توجهت إليه على أساس أني من سكان الحارة .. خاطبته برفق.. يا أخي يكفي هؤلاء .. لقد قتل منهم العشرات والمئات .. التفت نحوي بنظرة إجرامية ووجه البندقية تجاهي .. ولولا لطف الله حينها وتراجع بعض جنود الأمن العزل الذين كانوا قد وصلوا إلى السور ثم تراجعوا بعد أن بدأ المعتصمون بفتح ثغرة والهجوم الحجارة على المهاجمين .. تراجع هؤلاء الجنود هاربين فتوجهت فوراً إلى أحدهم وخاطبته وأنا أشير إلى هذا البلطجي .. يافندم شوف هذا أنا أنصحه أنه يكفي إطلاق النار وهو يشتي يطلق عليّ النار.. فتجاوب معي هذا الجندي وتوجه إلى البلطجي بتأييد كلامي .. في هذا الموقف العصيب شاهدت الموت ماثلاً أمامي ومع هذه الموجة الراجعة تراجع البلطجي إلى الشارع الخلفي وحاولت تتبعه لمراقبته إلى أين سيتجه .. وعند مدخل الشارع الفرعي كان بعض البلاطجة هناك قد أمسكوا بشاب لأنه حاول تصوير المكان بكاميرا هاتفه المحمول.. خمّنت حينها أنه أحد شباب الثورة فذهبت لمساندته وفكاكه من يدهم وتهدئة الموقف.. ولما تخلص منهم رجعت مسرعاً لمتابعة ذلك القاتل .. وواجهت في الشارع الخلفي القريب سيارة هيلوكس من حق النجدة واقفة وبداخلها سائق ومرافقه.. لم أدر هل ركبها هذا القاتل أم أنه انطلق وراءها.. آثرت السلامة ودرت إلى جهة الاعتصام..
قبل هذا المشهد كان بعض السكان في مجموعات صغيرة بعضهم تجمع بفعل التحريض وبعضهم لمجرد المشاهدة كانوا عزلاً ووقفت مع بعضهم لمحاولة إقناعهم بأن يتوجه كلٌ إلى منزله ولا داعي لأن يدخل نفسه في مواقف سيندم عليها وأن المعتصمين لن يتعرضوا لأحد لم يتعرض لهم.. وكان الحاضرون بين مؤيد ومعترض..
لاحظت سيارة فيتارا شبه جديدة وصاحبها يبدو متأنقاً وخرج منها وهو يحمل بندقية آلية جديدة كأنها خرجت من صندوقها.. مشيت ببطء على الرصيف إلى جواره.. خمّنت أنه ربما من أهل الحارة الذين استجابوا للتحريض .. خاطبته بهدوء .. كان متردداً .. قمت حينها بتسجيل رقم السيارة في حال شارك في الجريمة.. وظللت أراقبه.. إلى أن رأى الناس هناك يتراجعون فقام بركوب سيارته والانصراف..
في ظني أن هذه الجريمة استغرقت منهم الكثير تخطيطاً وإعداداً وأظنهم احتفلوا بنجاحها قبل وقوعها، وكثيراً ما أتخيل هؤلاء المجرمين بشخوصهم وحركاتهم وأنا أقرأ قول ربنا (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) . إلا أن هذه الجريمة أظنها أصدق استجابة لدعاء الثوار الذين كانوا يرددونه كثيراً والجماهير تؤمن بعدهم ( اللهم اجعل كيدهم في نحرهم وامكر بمن مكر بنا) حيث كانت الأسفين الذي ضرب أساسهم فخرَّ عليهم السقف من فوقهم وكانت ولا زالت جمعة الكرامة هي الشامة البيضاء في مسيرة الثورة والجمرة الحمراء التي أحرقت منفذيها ولا زالت كابوساً مستمراً يقض مضاجعهم ويؤرق منامهم ويقلق حياتهم وقد قيل قديماً (بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.